من قتل عليا وعمر؟

سكاي نيوز عربية: 24 يناير/كانون الثاني 2021

التفجيرات الانتحارية تعود إلى ساحات بغداد بعد غياب دام 3 سنوات، إذ كان آخر تفجير انتحاري في ساحة الطيران وسط بغداد في يناير 2018، وهي الساحة نفسها التي وقع فيها انفجار الخميس الماضي، الذي راح ضحيته 32 بريئا وجرح فيه 110 من العمال والكسبة والمتسوقين الفقراء.

وساحة الطيران، التي تزينها “جدارية فائق حسن” الشهيرة،  ليست بعيدة عن ساحة التحرير، معقل انتفاضة تشرين لعام 2019، وقريبة من سوق الشورجة الشهير المزدحم بالتجار من مدن العراق الأخرى، وهي منطقة يؤمها العمال الباحثون عن عمل يومي، وتقع قربها سوق شعبية يعمل فيها أصحاب المحال المتحركة الذين يبيعون الملابس والحاجيات الرخيصة التي تستقطب الفقراء.

دأب الانتحاريون على استهدافها لأسباب عديدة، أولُها أنها مزدحمة بالمتسوقين والمارة، وبذلك توفر لهم أكبر عدد من الضحايا، وثانيها وأهمها، هو أنها غير محصنة، فليس فيها دائرة حكومية ولا يسكن قربها مسؤول، كي تهتم لها الأجهزة الأمنية المسيسة، التي تزخر بغير المهنيين، وغير المكترثين بواجباتهم، والمسنودين (سياسيا) الذين لا يخشون فقدان مواقعهم، مهما أساءوا استخدامها أو قصّروا في أدائها، وهذه من كوارث العراق الجديد الذي أصبح فيه المنصب السياسي والإداري والأمني، يقدم لشاغليه كـ(حصة من الكعكة) وليس كمسؤولية تناط بالأكفأ والأقدر على تحملِّها، كما هو مألوف في الدول الأخرى.

وقد سارعت أبواق الجماعات السياسية المتشدقة بالدين إلى اعتبار التفجير استهدافا (للشيعة) من جماعة (سنية)، واعتبرته هدية نزلت عليها في الوقت المناسب، من أجل أن تشن حملة لتأجيج الكراهية والانقسام الطائفي، الذي كانت قد وظفته سابقا لأغراضٍ انتخابية، لكن شباب العراق الواعي ركلوه بأقدامهم، فولّى إلى غير رجعة.

وتفترض هذه الجماعات الطائفية الفاسدة، المرتبطة بإيران، أو تحاول إقناع العراقيين بالفكرة، بأن المناطق الفقيرة هي بالضرورة مناطق شيعية وأن استهدافها يحصل لأسباب طائفية، لكن الحقيقة هي أنه لا يمكن إطلاق صفةٍ طائفية على أي سوقٍ شعبية أو منطقةٍ مزدحمة أو مرفقٍ خدمي أو دائرةٍ حكومية أو حيٍ من أحياء المدن الكبيرة أو الصغيرة، فالعراقيون يعيشون معا، وغير منشغلين بهذه الأمور، وتجد التنوع المذهبي والقومي سائدا في المجتمع وحاضرا حتى ضمن البيت الواحد.

                                                                                                                                         عمر وعلي النعيمي قتلا في انفجار انتحاري في ساحة الطيران

وبعد أن أطلقت الأبواق الطائفية صرخاتها (وهاشتاغاتها) “لأننا شيعة” و”لا نريد عروبتكم”، في إشارة إلى ربط الانتحاريين بالدول العربية، في استعداد وتصميم على توظيف الحادثة طائفيا وسياسيا، لتشويه سمعة العرب، ودقِّ إسفين بينهم وبين العراقيين، نقلت وسائل الإعلام خبر مقتل شقيقين في عمر الزهور، هما عمر وعلي، كانا ذاهبيْن إلى السوق لشراء الملابس، فهما من عائلة فقيرة، اتضح لاحقا، ولأسباب موضوعية، بأنها سنية المذهب. وقد ظهر والد الشابين، لؤي النعيمي، في تشييعهما يندب ولديه، ويصر على المبيت في المقبرة إلى جانب قبريهما، ما أبكى المجتمع العراقي بأجمعه. كما اتضح أيضا أن باقي الضحايا كانوا من أديان ومذاهب مختلفة.

لا شك أن الجماعات الطائفية وجدت في هذا الحادث الإجرامي فرصة لتأجيج الكراهية والانقسام الطائفي بين الناس، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تعرفها كي تبقى في السلطة. فهي لا تسعى للبقاء عبر خدمة الناس، بل عبر خداعهم وتضليلهم. هذه الجماعات سعت دائما لأن يكون هناك اصطفاف طائفي، كي تستفيد منه سياسيا، وتنصب نفسها حامية للطائفة ومدافعة عنها. الأحزاب الوطنية لا تنزل إلى هذا الحضيض، بل تصر على خطاب وطني جامع وموحِد لأفراد المجتمع.

هل يمكن أن يكون هناك تواطؤ بين هذه الجماعات الإجرامية، التي تبدو لنا متناحرة ومختلفة، على قتل العراقيين وتوظيف الجرائم طائفيا وسياسيا؟ مصادر أمنية قالت إن هناك خرقا أمنيا، ما يعني أن هناك من سهَّل وصول إرهابيي داعش إلى ساحة الطيران، وكرد فعل على هذا الخرق، أقدمت الحكومة على استبدال عدد من المسؤولين الأمنيين، لتقصيرهم أو قصورهم في أداء الواجب. لكن الإجراءات يجب أن تكون أكثر صرامة، فلابد من التحقيق في كيفية عبور الإرهابيين، بأحزمتهم الناسفة، كل نقاط التفتيش وسط العاصمة دون أن يكتشفهم أحد.

لقد صدعت الجماعات الطائفية رؤوس العراقيين بأنها “حمت أعراضهم” وصدت داعش عن بغداد وهزمتها! لكنها، كلما وقع حادث إجرامي، سارعت لإلقاء اللائمة على داعش! فعندما اغتيل الدكتور هشام الهاشمي قالت إن داعش قتله، وقدمت العذر نفسه عندما أغتيلت الدكتورة ريهام يعقوب والصحفي أحمد عبد الصمد في البصرة، وعندما قتل وخطف مئات الناشطين الآخرين في عموم العراق. أما قتلة شبان ساحة التحرير فقد قيل لنا أن “الطرف الثالث” قد قتلهم! هذا هو تأريخ هذه الجماعات في الكذب المفضوح، فكيف يصدق العراقيون بأنها غير متورطة في مقتل عمر وعلي وباقي ضحايا ساحة الطيران، وهم يعلمون بأنها متورطة في قتل ناشطي ساحات التحرير والخلاني والحبوبي والبحرية، وضالعة في الاغتيالات وأعمال الخطف والنهب والتهريب المتفرقة؟ 

لابد أن يكون هناك تواطؤ مع الانتحاريين، الذين ربما وصلوا إلى ساحة الطيران بسيارات عسكرية لا تخضع للتفتيش، وكثيرون في العراق وخارجه يعتقدون بذلك، وقد عبر عنه الفنان فهد الخميسي برسم كاركتيري معبِّر، يشير إلى علاقة إيران بالجريمة، والأمر يبدو معقولا خصوصا مع افتضاح احتضان إيران لإرهابيين من تنظيم القاعدة، الذي فضحه اغتيال أحد قياديي القاعدة، أبو محمد المصري، في طهران على أيدي عناصر متعاونة مع الموساد الإسرائيلي في أوغسطس 2020، حسبما نشرته صحيفة نيويورك تايمز، وأكده وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو. وقبل ذلك، قامت إيران، عبر جماعة نصر الله اللبنانية، بنقل مقاتلي داعش من الحدود السورية-اللبنانية إلى الحدود العراقية، في فضيحة مجلجلة اختفت كليا عن الأبواق الموالية لإيران، وهي إن دلت على شيء إنما تدل على وجود علاقة تخادم بين إيران وتنظيم داعش!

فإن كانت إيران تستضيف إرهابيين من طالبان والقاعدة، وتدعم مليشيات إرهابية في العراق وبلدان أخرى، وتوفر حافلات لنقل إرهابيي داعش من سوريا إلى العراق، فلماذا لا تتعاون مع داعش كي يبقى العراق ألعوبة بأيديها تستخدمه كيف تشاء؟ لقد وظفت إيران الخلافات الطائفية توظيفا سياسيا منذ زمن بعيد، وكانت وسائل إعلامها تؤجج الأحقاد الطائفية باستمرار، ونصبت نفسها حامية وراعية للشيعة في بلدان العالم المختلفة، بل أقنعت بعضهم بأنهم ضعفاء، وإنْ لم يستعينوا بإيران، فإن السنة سوف يضطهدونهم! لكن الحقيقة هي أن الشيعة تضرروا كثيرا من هذا الخطاب الإيراني الطائفي، خصوصا مع انخراط بعضهم في مليشيات إيرانية تعمل على تخريب بلدانهم. 

لقد وظف القوميون الإيرانيون أحداث التأريخ العربي لتشويه صورة العرب، وروجوا خرافات وقصصا مبالغا فيها، ومعظمها مختلق كليا، وجعلوها صورة نمطية للعرب، وأوهموا بها البسطاء من الإيرانيين وأتباعهم. ورغم التبجح بالإسلام، إلا أن القوميين الإيرانيين لم ينسوا أن العرب هم الذين أسقطوا الإمبراطورية الفارسية، ولا يترددون في التصريح باستيائهم من هذا الأمر، علما أنهم أصبحوا مسلمين بإرادتهم، ومن يعتنق الإسلام بحق، فلابد أن يحترم في أعماقه رموز المسلمين العرب، وهذا ما لم يفعله الإيرانيون طوال تأريخهم، ولا نريد أن ندخل بالتفاصيل لأنها مملة.

وينقل وزير الخارجية الليبي الأسبق، عبد الرحمن شلقم، في مقابلات متلفزة، عن القادة الإيرانيين قولهم إنهم الشعب الوحيد بين الشعوب الإسلامية الذي يحق له أن يحكم المسلمين باعتبار “أن له حضارة أكثر مما للعرب والترك” الذين حكموا لفترات طويلة. ويضيف شلقم أن الإيرانيين لا يعترفون للعرب بفضل، سوى أن النبي منهم والقرآن بلغتهم، ويقولون إن “العرب لا تراثَ حضاريا لهم، وإنما سكان صحراء لا يجيدون سوى نظم الشعر”! أما الأتراك “فلا يجيدون سوى القتال”، وقد جاء الآن دور الفرس كي يحكموا المسلمين! وهذا تصريح لا يقبل التأويل بأنهم يعتزمون التمدد خارج حدود إيران والسيطرة على البلدان العربية “لأنهم الأجدر بحكم المسلمين” من الشعوب الأخرى.  

والسيد شلقم لا يفتري على الإيرانيين، فقد كان لأربعين عاما وزيرا ومسؤولا في حكومة العقيد القذافي المتحالفة مع النظام الإيراني سياسيا وعسكريا، وقد قدمت لإيران أموالا وأسلحة أثناء حربها على العراق، بينها صواريخ سكود التي كانت تتساقط على رؤوس سكان بغداد والبصرة وباقي المدن العراقية، وهذا ما اعترف به شلقم في مقابلة مع قناة روسيا اليوم، متوفرة في موقع يوتيوب.

الشيعة العرب، خصوصا في العراق، حيث يتجاوز عددهم العشرين مليونا، ليسوا ضعفاء كي يحتاجوا إلى حماية الإيرانيين، وهذه الحقيقة يجب أن يعرفها العراقيون جميعا. لا يواجه الشيعة أي تهديد من أي مجموعة سكانية، دينية أو قومية، وقد عاشوا في كل دول العالم ضمن حدود الحرية المتاحة لغيرهم، والخطر الوحيد الذي يتهددهم هو طموحات حكام إيران التوسعية، ومحاولة توظيفهم كجنود ومرتزقة، ما يخلق لهم عداوات مع الشعوب الأخرى، الصديقة والشقيقة. لم تعد الدول أو الشعوب  في العصر الحديث تصطف أو تتحالف على أسس دينية أو مذهبية. التقارب والتعاون والتحالف بين الدول تبنى على المصالح فحسب. لاشك أن كل إنسان لديه عقيدة وقيم روحية وأخلاقية، لكن الانتماء للوطن هو الذي يُشكِّل هويته الأساسية، ويؤسس لقيمه العليا. الأفكار والعقائد والولاءات تتغير وتتفاوت، لكن الانتماء الوطني والقومي متأصل ومرتبط بالوجود، ويسمو على كل ما يعتز به الإنسان.

في هذا العصر لا تستطيع الدول القوية أن تستولي على الدول الأضعف منها، فقانون الغاب لم يعد معمولا به في القرن الحادي والعشرين. هناك قوانين ومواثيق دولية رادعة، وهناك دول عظمى وأمم متحدة تفعِّل القوانين الدولية بالقوة، وفق مواد الفصل السابع، فلم يتمكن صدام من البقاء في الكويت، ولم يتمكن الأسد من البقاء في لبنان، ولم تتمكن بريطانيا من البقاء في هونكونغ رغم رغبة شعب هونكونغ ببقائها، وعلى حكام إيران أن يعلموا ذلك قبل فوات الأوان، وألا يستهينوا بإرادة الشعب العراقي الرافضِ للتبعية، والمصممِ على انتزاع سيادته المنتهَكة، ولا بالإرادة الدولية الرافضة لانتهاك سيادة الدول، مهما كانت صغيرة أو ضعيفة. أولوية النظام الإيراني يجب أن تكون للتخلص من العزلة الدولية والإقليمية، وهذا يحصل عبر احترام سيادة الدول الأخرى، وإعادة تأهيل نفسه كي يكون مقبولا إقليميا ودوليا.

التنوع الديني والطائفي والقومي والثقافي موجود في كل البلدان، ولم يتسبب في زعزعة استقرارها، إلا في العراق، فإنه يُوظَف للتخريب والقتل والخطف والابتزاز. هناك من يؤجِّج الكراهية، ويستخدم العنف كي يبقى مهيمنا ومتحكما، وهؤلاء، ومن يقف وراءهم، هم العدو الحقيقي الذي يجب أن يُهزَم كي يعيش العراقيون وباقي شعوب المنطقة بسلام. 

حميد الكفائي

https://www.skynewsarabia.com/blog/1410053-%D9%82%D8%AA%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%B9%D9%85%D8%B1%D8%9F