لماذا يا أبا لميس؟

قبل ربعِ قرن التقيتُ بالدكتور منصور محمد (أبو لميس) في بيت صديقي المهندس حميد الصوفي، ومنذ ذلك الوقت أصبحنا أصدقاء. بل أن كلمة أصدقاء لا ترقى إلى سمو علاقتنا، فما كان بيننا أكبرُ من صداقة. إنه انتماءٌ وولاءٌ وحرصٌ وتواصلٌ ومروءةٌ وصدقٌ وودٌ وألفة.

لا يملك المرءُ، إلا أن يعجب بأبي لميس، فقد كان متعددَ المواهب والملكات والمزايا، شخصيةً ودودة تبعث على الاطمئنان والأمل، ولا تشكلُ تحديا للآخر، صغيرا كان أم كبيرا.

في لقاءاتنا العائلية المتواصلة ينشغل أبو لميس مع الأطفال والشباب، يتحدث معهم ويلاعبهم ويتسامر معهم ويتبادل الأفكار والأخبار والطرف، وكانوا دائما يُقْبِلون عليه بولع وحب ويتواصلون معه بشوق وسعادة، فعلاقته بالشباب والفتوة كانت أقوى من أي علاقة. نعم، كان ينتمي إلى جيل الشباب روحيا، وإلى النشاط والعنفوان عمليا وإلى مكارم الاخلاق والمهنية معنويا.

                                                                                                                             أعلاه النعي الذي وضعته كلية أكسبريج برحيل الدكتور منصور محمد 

كان لدى أبي لميس قدرةٌ نادرة على تشخيصِ المشتركات مع الآخرين، وبسرعة مذهلة. وبمرور الزمن، يوسع من هذه المشتركات، ويركز على أحبِّها إلى قلبِ صديقِه، فتجدُه دائما يكلمك بما تحب، ليس بتكرارٍ ممل، بل بابتكارٍ مذهل، وأحيانا يختصر موقفا معينا بعبارة واحدة. كانت صحبتُه أنسا ولقاؤه سعادة وحديثُه متعة ومنظرُه هيبة ووجوده طمأنينة.

وصل أبو لميس إلى لندن عام 1994 قادما من العراق، حيث كان يعمل أستاذا في الهندسة في جامعة البصرة، وقد عمل هناك منذ أن نال شهادة الدكتوراه من بريطانيا عام 1978. وقد حصل على حق الإقامة في بريطانيا حينما طلبه عند وصوله إلى لندن، إذ كان لديه سجل حافل بالإنجازات العلمية عندما كان طالب دراسات عليا في السبعينيات.

وفور استقراره في بريطانيا، بدأ عملية البحث عن فرصةِ عمل في المجال الذي خَبَرَه جيدا وهو التدريس الجامعي. ولأن المنافسة شديدة، وكونُ التعيينِ في هذا المجال يحتاج إلى فترة طويلة فقد تأخر حصولُُه على وظيفة جامعية بعض الوقت. لكنه لم ينتظر طويلا ليحصل على عمل في مجال تخصصه، وسرعان ما انخرط في مجال آخر، وبدأ يدرس ويتدرب مع شبان بعمر أولاده لكي يصبح فاحص بصر.

استغربت حقا استعجاله للحصول على مؤهل جديد، وهو البروفيسور الحائز على أكثر من براءة اختراع في مجال تخصصه، لكنه أوضح لي السبب. “ليس صحيحا أن ينتظر المرء أن يحصل على وظيفة في مجال محدد، إن كانت الوظائف شحيحة في هذا المجال، بل يجب عليه أن يبحث عن مجال آخر يوفر له فرصة عمل تمكنه من أن ينفع نفسه والمجتمع. التخصص الذي لا يأتيك بفرصة عمل يصبح فائضا عن الحاجة وربما عائقا للتقدم في الحياة، وعليك أن تغادره إلى مجال آخر ذي نفع لك وللمجتمع”.

نعم بهذه النظرة الثاقبة كان ينظر إلى الأشياء، وفعلا أكمل أبو لميس دراسته التي استمرت سنتين مع التدريب، وأصبح فاحص بصر مرخص، لكنه وقبل أن يتقدم للعمل كفاحص بصر، عرضت عليه كلية أكسبريج العمل فيها كأستاذ للهندسة، فقبل العرض وعمل منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي حتى يوم سقوطه أثناء أدائه واجبه الأكاديمي مصابا بوعكة صحية، اتضح لاحقا أنها كانت نتيجة لأصابته بفيروس كورونا اللعين.

رفض أبو لميس التقاعد، علما أنه كان مستحقا له منذ ثماني سنوات، لكن العمل بالنسبة له يمثل الحياة، والحياة تتجلى في العمل، وقد كان كذلك فعلا، ولولا إصابته بكورنا، لاستمر أبو لميس في التدريس لعشر سنوات أخرى.

لقد ربى أبو لميس عائلة مثالية، وكانت علاقته ببناته وابنه وزوجته أسطورية حقا. كانت علاقةً مبنية على الحب والصداقة والمساواة ومشاعر الود والحرص المتبادلة. كان يغدق عليهم من سمو أخلاقه وكرمه واهتمامه ما يجعلهم جميعا سعداء مفعمين بالأمل، أوفياء له، وقريبين منه. لا شك أن حزنهم اليوم برحيله لا يضاهيه حزن على شيء في الدنيا، خصوصا وأنه فاجأهم وصدمهم برحيله المبكر. سوف يفتقدونه بشدة لأنه حرص بقوة على ملء كل فراغ في حياتهم.

أما نحن، محبيه وأصدقاءه وزملاءه، فسوف يبقى يعيش بيننا ما حيينا. سوف نتذكره في كل لقاء وفي كل مناسبة، فقد كان حاضرا في حياتنا لربع قرن وسيبقى حاضرا وإن غاب جسدا. ارقد بسلام أبا لميس، فقد عشت حياةً مليئةً بالنشاط والعطاء، حياةً حققت النفع ونشرت السعادة وبعثت الأمل بين كل من مررتَ بهم.

كنت طيفا سعيدا غمر حياتنا لربع قرن، وها نحن نستقيظُ اليوم على رحيلك المبكر. كم كنا نتمنى أن يستمر هذا الطيف كي يستمر معه الحلمُ السعيد.

آهٍ أبا لميس، ذهبت وخلَفت في نفوسنا حرقة وألما، وفي قلوبنا لوعة وحسرة. لقد كان طموحُنا بعطائك كبيرا، وأملنا ببقائك وفيرا وطمعُنا بكرمك أثيرا. أحزنتنا اليوم وأحزنت كل سعداء الحظ الذين التقوك في كل بقعة مررت بها من أرض الله الواسعة. نحن اليوم مكلومون بغيابِك، وعاتبون عليك، ولنا الحق هذه المرة، فقد عودتنا على الفرح والمرح والسرور، وها هو الحزن والإحباط وخيبة الأمل تخيم على حياتنا بعد أن غادرتنا دون وداع.

نم قرير العين، أبا لميس، فمآثرُك سوف تحيا طويلا بعد غيابِك، ودروسُك الأخلاقية والعلمية التي ألهمتَها لكل من عرَفك سيتمثلُها طلابُك وأصدقاؤك وأبناؤك وبناتك وأحفادك وأسباطك. سوف تبقى مثالا ومنارا للساعين إلى النجاح والسمو والرفعة.    

حميد الكفائي

10 تشرين الثاني 2020

آخر صورة التقطت لي مع أبي لميس وأبي شهد في ديسمبر 2019 في عيد ميلاد د. صلاح عطرة