خسارة ترامب لا تعني انتهاء “الترامبية”

سكاي نيوز عربية 8/11/2020

السؤال الذي يطرحه كثيرون هو كيف فاز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016؟ فالرجل لم يكن سياسيا، ومشروعه السياسي غير واضح المعالم، باستثناء سعيه الوصول إلى الرئاسة، عبر تمثيل شريحة محددة من الأمريكيين. لم يسعَ ترامب إلى منصب سياسي قبل عام 2016، وطروحاته السياسية غير مقنعة لغالبية الأمريكيين، إذ اقتصرت على محاربة العولمة، التي يتوهم المحافظون والمتدينون المسيحيون، بأنها همّشتهم وساهمت في انتقال النشاطات الاقتصادية خارجَ الولايات المتحدة.

اختلف ترامب كثيرا عن معظم سياسيي الحزب الجمهوري، الذين لم يترددوا في انتقاده، ومنهم المرشحان الرئاسيان السابقان، السناتور جون مَكَّين والسناتور ميت رومني، وربما ساهم ذلك في عزوف كثيرين عن التصويت له. المرشح الرئاسي الجمهوي لعام 2012، ميت رومني، مثلا قال إن “علاقة ترامب بالحقيقة غير وثيقة! ويجب ألا نتوقع منه أن يتصرف كباقي الرؤساء والمرشحين المؤمنين بالديمقراطية”. بينما قادت مَغان مَكَّين، ابنة السناتور جون مَكَّين، مرشح الحزب الجمهوري لعام 2008، وأرملته، سيندي مَكَّين، حملة ضد ترامب في ولاية أريزونا، ساهمت، وفق مراقبين، في إقناع كثيرين من مؤيدي الحزب الجهموري للتصويت لجو بايدن، وكانتا من أوائل المهنئين له.

معظم الأمريكيين كانوا يعرفون دونالد ترامب قبل انخراطه في السياسة، بسبب عمله في “إعلام الواقع”، وهو إعلام ترفيهي بالدرجة الأولى. وبسبب هذه الأُلفة مع أقواله وأفكاره، التي كانت جزءا من عمله الكوميدي، لم يفاجأ الأمريكيون بآرائه ومواقفه الغرائبية بعد أن أصبح رئيسا، والتي ظلت غريبة عن عالم السياسة والدبلوماسية. سياساته وخطاباته وجرأته غير المألوفة، أحرجت زملاءه وأصدقاءه وأتباعه قبل أن تُغضِب خصومه ومنافسيه ومنتقديه وتقدم لهم سلاحا مجانيا لمحاربته.

فاز دونالد ترامب عام 2016 في سباق الرئاسة في منافسة حامية الوطيس مع السياسية المتمرسة، ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلنتِن، زوجة الرئيس والسياسي البارع، بيل كلنتِن، الطفل اليتيم ذي الخلفية المتواضعة، الذي تبنى اسم زوج أمه (اسمه الأصلي وليام بلايذ) كي ينسجم مع باقي أفراد العائلة، لكنه فاز فوزا كاسحا في الانتخابات الرئاسية عام 1992 بسبب لباقته ووسامته ووضوح أفكاره وبرنامجه السياسي، وخبرته الإدارية، إذ كان حاكما لولاية آركنسو لعدة دورات.

وعلى الرغم من أن هيلاري كانت السيدة الأولى لثماني سنوات وقد أَلِفَت السياسة الأمريكية عن قرب، وحاولت أثناء رئاسة زوجها أن تؤسس نظاما صحيا طموحا، وتولت لاحقا منصب وزير الخارجية لأربع سنوات، لكنها خسرت أمام رجل الأعمال الملياردير، والإعلامي الترفيهي، دونالد ترامب، الذي يمارس السياسة لأول مرة.

كان دونالد ترامب أول من فوجئ بفوزه، وقد تأخر في إلقاء خطاب الفوز، لأن فريقه لم يعِد له الخطاب، متوقعا عدم فوزه، كباقي المراقبين الذين توقعوا فوز هيلاري لتصبحَ أول امرأة تتبوأ منصب الرئيس.

أسباب فوز ترامب عام 2016 كثيرة، منها قدرته على الوصول إلى ملايين الأمريكيين البيض، عبر ممارسته خطابا فكاهيا وجديا متنوعا، وعبر استخدامه وسائل إعلامه الألكترونية العديدة، وتوجهه إلى شرائح المجتمع الأمريكي بخطابات مختلفة، إذ كان يخاطب كل شريحة بلغتها ويطرح عليها حلولا تناسب مشاكلها، رغم أن تلك الحلول كانت غير عملية كبناء جدار على طول الحدود مع المكسيك، تدفع المكسيك كلفته! أو منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة!

استخدم ترامب خطابا تمييزيا وحاول اللعب على مخاوف الناخبين الأمريكيين البيض، الذين يشعرون بالتهميش المتواصل بسبب انتقال بعض مراكز الإنتاج الصناعي الأمريكية، التي كانت توظف كثيرين منهم، إلى خارج الولايات المتحدة، مستفزا فيهم النزعات العنصرية والطبقية والدينية. وقد نجح في حملته الرئاسية الأولى في تحشيد الدعم لرئاسته فخرج ملايين الأمريكيين وصوتوا له. الشيء نفسه حصل عام 2020، ولكن ليس بالقدر الكافي ليبقيه في البيت الأبيض.

السبب الآخر هو ضعف شعبية منافسته، التي تعرضت عائلتها للتحقيق في قضايا فساد، ورغم أن التحقيق لم يُدِن أيّأ من العائلة، لكن تهم الفساد علِقت في أذهان كثيرين، ودفعتهم للتصويت لترامب. وربما لم يكن المجتمع الأمريكي مستعدا لمنح امرأة الموقعَ الأول في الدولة، مهما أوتيَت من ذكاء وخبرة وشهرة. وحتى الآن لم تتسلم امرأة منصب الرئيس أو نائب الرئيس في الولايات المتحدة، وستكون كمالا هاريس، أول امرأة تشغل منصب نائب الرئيس في عهد الرئيس جوزيف بايدن.

عندما أصبح ترامب رئيسا، أخذ يتصرف وكأنه فوق القانون، فكل شيء لا يستطيع أن يستحصل له موافقة الكونغرس، يصدر به أمرا رئاسيا! حتى أنه في سنته الأولى حكم عبر الأوامر الرئاسية فقط. بدأ يمارس أفعالا مخالفة للقانون وميثاق حقوق الإنسان العالمي مثل مطالبته بممارسة التعذيب على المعتقلين لاستحصال الأدلة منهم! والتي رفضها وزير دفاعه الأول جيمز ماتيس الذي استقال لاحقا لأنه (وجد الرئيس شخصا مريبا ومحدود المعرفة) كما قال مقربون منه!

 عيَّن ترامب في عامه الأول ثلاثة مستشارين للأمن القومي ووزيرين للخارجية ووزيرين للدفاع! وهذا أمر غير مسبوق في الإدارات الامريكية المتعاقبة. كان يُغضِب أعضاء إدارته باتخاذ القرارات المهمة دون الرجوع إليهم، كقرار انسحابه المفاجئ من سوريا الذي اتخذه خلال مكالمة هاتفية.

أعلن ترامب في خطابه الأول أمام الأمم المتحدة أنه سوف “يدمر كوريا الشمالية”! وهو تصريح صادم، وما كان أيُّ رئيس في العالم سيطلقه في خطاب رسمي، فتدمير بلد كامل ليس بالأمر الهين على أي زعيم مسؤول. وفي أعقاب تصريحه الناري ذاك، قام بزيارة كوريا الشمالية، والتقى برئيسها، كيم جونغ أون، ثم التقى به مرة أخرى في المنطقة الفاصلة بين الكوريتين. ومع ذلك لم يستطِع أن يبرم اتفاقا يمنعها من تصنيع الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية.

اتخذ موقفا مناهضا للاتحاد الأوروبي، الذي ساعدت الولايات المتحدة على إنشائه بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف منع اندلاع حرب أخرى في أوروبا، وخلقِ حليف ديمقراطي قوي، وبقيت تسانده في ظل الإدارات الامريكية المتعاقبة. كما شجع بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ووعد بإبرام اتفاق تجاري معها يعوضها عن الخسائر التي قد تتكبدها عند انسحابها من الكتلة الأوروبية!

لم ينجح في إبرام اتفاق تجاري مع الصين، بل فرض عليها تعرفاتٍ جمركية باهظة، ما أضر بالصناعة الأمريكية، وساهم في توتير العلاقات معها إلى درجة إرسال الصين سفنها الحربية إلى بحر الصين الجنوبي والتهديد بالسيطرة الكاملة عليه، في حين يسيطر الأسطول الأمريكي على البحر منذ الحرب العالمية الثانية.

انسحب من اتفاقية باريس للمناخ بعد ثلاث سنوات من دخول الولايات المتحد طرفا مهما فيها في عهد الرئيس أوباما. وتُلزِم الاتفاقية الموقعين بإبقاء انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون دون 2%، وهي النسبة التي كانت سائدة في عصر ماقبل الصناعة.

كما انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، الذي ألزمها بإبقاء انتاجها من اليورانيوم المخصب دون 300 كيلوغرام وبتركيز دون 3.67%، الأمر الذي يمنعها من تصنيع السلاح النووي. لقد أتاح الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي للنظام الإيراني أن ينتج كميات أكبر من اليورانيوم دون رقابة دولية، بينما استمر في انتاج الأسلحة البعيدة المدى التي تهدد دول المنطقة. صحيح أنه شدَّد العقوبات الاقتصادية على إيران، لكن العقوبات وحدها غير كافية لردع النظام الإيراني عن التوسع وتهديد الدول الأخرى والتدخل في شؤونها.

لم يكن الاتفاق النووي كافيا لردع إيران، وكان يجب أن يكون جزءا من إتفاق أوسع حول التسلح الإيراني وتدخل إيران في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وهذا خلل ارتكبته إدارة أوباما، لكن الانسحاب من الاتفاق برهن هو الآخر على أنه غير مجدٍ، إذ واصلت إيران تمددها وتدخلها في شؤون دول الشرق الأوسط عامة، والعراق خاصة.

مليشيات إيران في العراق أخذت تهاجم القوات الأمريكية والسفارة الأمريكية، بينما بقيت ردود الفعل الأمريكية دون مستوى تلك الاستفزازات، بل أن وزير خارجية الأمريكي هدد بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد! وهو رد لا يليق بدولةٍ عظمى كالولايات المتحدة كانت إلى عهد قريب تتحكم بالعراق عسكريا.

صحيح أن العقوبات الأمريكية أضرت بالاقتصاد الإيراني، لكنها لم تؤدِ الغرض الذي فرضت من أجله وهو إيقاف تهديد إيران لدول المنطقة وتدخلها في شؤونها وتهديدها لسيادتها. المطلوب من الإدارة المقبلة أن تسلك طرقا أخرى لتحقيق هذا الهدف، فالعقوبات لم تحقق أهدافها، والوقت ليس في صالح المجتمع الدولي لأن التسلح الإيراني في ظل حكومة دينية متطرفة ومعادية لكل دول المنطقة، سيشكل خطرا حقيقيا على منطقة الشرق الأوسط والسلام العالمي.

لقد أغضب ترامب بخطاباته المتشنجة شرائح كثيرة في المجتمع الأمريكي خصوصا ذوي الأصول غير الأوروبية كالافارقة والأسبان والهنود والعرب والأمريكين الأصليين، وأثار انقساما عرقيا وطبقيا عميقا، كاد أن يؤدي إلى أعمال عنف في مناطق متعددة.

ومما يحسب على ترامب، وأضر بفرص إعادة انتخابه، هو موقفه من جائحة كورونا، واستهانته بأخطارها وعدم اتخاذه إجراءات سريعة لمواجهتها، ما تسبب في موت أكثر من 332 ألف أمريكي. ظل يستهين بالفيروس القاتل ويقلل من خطره حتى بعد أن أصيب به شخصيا، ورئيس إدارة البيت الأبيض، مارك مادوز. كان يسخر من خطر (كوفيد) حتى في اليوم الأخير من حملته الانتخابية، إذ طالب أتباعه بالذهاب للتصويت شخصيا، في تجاهلٍ لإجراءات السلامة الصحية، بينما نصح منافسُه، جو بايدن، الأمريكيين بالتصويت عبر البريد وقد فعل معظمهم، إذ تجاوز عدد المقترعين بالبريد 103 ملايين ناخب، معظمهم من مؤيدي الحزب الديمقراطي.

أظهرت الانتخابات الاخيرة استقطابا واضحا، فقد بلغ عدد المقترعين 144 مليون، وهو رقم قياسي، حصل جو بايدن على  74 مليون صوت منها، بينما حصل ترامب على سبعين مليون. ولأول مرة في التأريخ الأمريكي، يحصل المرشحان، الفائز والخاسر، على هذا العدد الهائل من الأصوات.

وعلى رغم خسارة ترامب في الانتخابات، إلا أن تصويت سبعين مليون أمريكي له يعني أن نهجه وأفكاره لن تختفي من الساحة السياسية، ما يجعل مهمة إدارة بايدن في إعادة توحيد البلاد وتقريب وجهات النظر، صعبة. لم يكن ترامب رئيسا لكل الأمريكيين، كما كان يجب أن يكون، بل ظل حبيسا بين جدران اليمين الأمريكي الشاهقة التي عزلته عن باقي الأمريكيين الذين تناخوا في الانتخابات الأخيرة وخرجوا بالملايين لإنهاء حكمه. بايدن وعد بأنه سيكون رئيسا لكل الأمريكيين، ولكن هل سيتمكن في ظل بيئة يسودها التوتر والانقسام؟

إن رفض ترامب الاعتراف بخسارته هو موقف غير مألوف في السياسة الأمريكية، في العادة، يعترف الخاسر بخسارته ويهنئ الفائز، ولا يشكِّك بصدقية المؤسسات الديمقراطية. لم يهنئ ترامب أو أيٌّ من قادة الحزب الجمهوري حتى الآن الرئيس المنتخب، باستثناء الرئيس الأسبق جورج بوش، والسناتور ميت رومني وحاكم ولاية مريلاند، لاري هوغان. على العكس من ذلك، فقد تقدم فريق ترامب بشكاوى لدى المحاكم لإعادة عد الأصوات في بعض الولايات، مثل جورجيا، بسبب الفارق الضئيل بين أصوات المرشحيْن، لكن هذا لن يجدي نفعا، وسوف يضطر الرئيس إلى الاعتراف بخسارته قريبا.

سيخرج ترامب من الرئاسة في العشرين من يناير المقبل، لكن مؤيديه الـ70 مليون سيبقون مؤثرين في السياسة الأمريكية، ما يعني أن الرئيس الجديد لن يستطيع أن يلغي سياسات سلفه كليا، خصوصا مع نجاح الجمهوريين في السيطرة على مجلس الشيوخ وتزايد عددهم في مجلس النواب. سوف يزداد تمسك الولايات المتحدة بحلفائها في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط في ظل رئاسة بايدن، وسوف تتحسن علاقاتها بالصين. لكن الموقف من إيران لن يتغير لأن إيران تعادي الولايات المتحدة وحلفاءها، وهذه سياسة غير قابلة للاستمرار وستضطر إيران إلى تغييرها.

حميد الكفائي

https://www.skynewsarabia.com/blog/1391194-%D8%AE%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%AA%D8%B9%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%87%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8%D9%8A%D8%A9