الأستاذ المثالي طلال هاتف يغادر مطمئنا

لم يكن طلال هاتف مدرسا عاديا. كان مدرسة متميزة ونادرة، ليس في مادة الرياضيات التي كان يدرسها فحسب، بل في الأخلاق والمهنية والصدق وحب الآخرين والتفاني في خدمتهم. درّسني في الإعدادية المركزية في الديوانية عام 1978/1977 وكان الطلاب جميعا يحبون درس الرياضيات بسببه.

أتذكر في اول يوم لنا في المدرسة، جاءنا طلال هاتف حاملا كتاب الهندسة التحليلية المقرر تدريسه للصف السادس العلمي قائلا: هذا الكتاب اتركوه في البيت وانصتوا لي ودونوا ما أقوله وسوف تنجحون بتفوق! كنا نجد في درس الرياضيات متعة ما بعدها متعة. فكل كلمة يقولها أستاذ هاتف وكل حركة يؤديها تجعلنا نحبه ونحب المدرسة ومادة الرياضيات.

كان يأتي إلى المدرسة الساعة الثامنة صباحا ليخرج منها التاسعة ليلا! نعم ثلاث عشرة ساعة يوميا إذ كان يدرسنا بعد الدوام دروسا أضافية مجانية من أجل أن نتقن المادة. وكان يأتي إلى المدرسة متطوعا يوم الجمعة أيضا…

عرضت عليه مدارس خاصة وعامة في بغداد العمل فيها وبأجور عالية، خصوصا بعد شيوع سمعته كمدرس متميز، لكنه رفضها جميعا وظل وفيا للديوانية وأهلها.لم يترك أستاذ أثرا في نفسي كما تركه العملاق طلال هاتف.

في عام 2015 كنت في الديوانية لرعاية مهرجان الشباب المبدعين، والإبداع دائما يذكرني بطلال هاتف: المبدع المحب للخير المليء بالأمل. قررت أن أبحث عنه وأسعد بلقائه بعد طول فراق. وبعد بحث لم يدم طويلا، فأهالي الديوانية جميعا يعرفونه، عرفت أنه مازال يدرس الرياضيات ولكن في معهد أبن رشد في الديوانية وليس في الإعدادية المركزية. ذهبت دون سابق موعد إلى معهد ابن رشد وسألت عنه فقالوا إنه موجود.

طلبت أن أراه فجاءني وعانقته كأب ومعلم وملهم. قلت له أستاذ طلال أنت أستاذ ملهِم تركت فينا أثرا لا ينسى. فقال وأنتم جيل متميز لا يتكرر. “في أيامكم، كنت آتي إلى الصف فأجد أن عدد الطلاب أكثر دائما من العدد المسجل رسميا. الآخرون جاءوا من صفوف أخرى للتعلم والاستزادة. أما الآن فأذهب إلى الصف ولا أجد حتى نصف العدد المسجل رسميا”.

طلال هاتف الذي رحل اليوم سيبقى في قلبي وقلوب آلاف الطلاب الذين درسهم في الديوانية، ليس مادة الرياضيات فحسب، بل ضرب لهم مثلا رفيعا في الأخلاق والإخلاص والصدق والتواضع وحب الخير للآخرين.

وداعا أيها الأستاذ العظيم وستبقى ذكراك الفواحةُ عطرا تملأ وجداننا، وسوف تتناقل الأجيال أخبارك ومآثرك وسموك ورقيك وتميزك على أبناء جيلك الراقي.

 

حميد الكفائي

19 آذار 2019