أين “النصر” و”الفتح” من عودة داعش إلى العراق؟
سكاي نيوز عربية 17 أيار/مايو 2020

 

 

كان العراقيون ومعهم كل شعوب العالم المحبة للسلام قد استبشروا خيرا بالانتصار على تنظيم الدولة الإرهابي (داعش) وانهيار سلطته في محافظات نينوى والأنبار وديالي وكركوك وصلاح الدين وبابل، وقد ادعى الكثير من قادة المليشيات المرتبطة بإيران، البطولة بأنهم هم الذين تمكنوا من اقتلاع داعش من العراق.

وقد حصلوا على الكثير من التأييد في الانتخابات الماضية بسبب ذلك. لكن التنظيم عاد الآن إلى العمل وبقوة، وقد تمكن من تنفيذ عمليات إرهابية في مناطق متفرقة راح ضحيتها العديد من منتسبي قوى الجيش والأمن والحشد الشعبي، بالإضافة إلى المدنيين العراقيين الذين يشكلون دائما الجزء الأكبر من الضحايا، سواء على مستوى الخسائر البشرية أو المادية.

إن عودة التنظيم هو دليل صارخ على أن (الانتصار) على داعش، الذي طالما تحدث عنه قادة العراق المدنيون والعسكريون، واستثمروه انتخابيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لم يكن انتصارا ناجزا، بل هو انتصار في معركة واحدة، فاقت خسائرها البشرية والمادية كل التوقعات المعقولة، بينما الحرب مازالت مستمرة وأن داعش موجود على الأرض في مناطق عديدة وهو يتحين الفرص ويستغل الأزمات السياسية والاقتصادية والمناسبات الدينية كي ينفذ عملياتٍ تلحق أضرارا بالأفراد والممتلكات.

وبعد أن أعلن رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي الانتصار على داعش اشتدت معركة (استثمار الفوز) بين السياسيين العراقيين، وقد كَثُر آباءُ هذا الفوز، وتاجر به الجميع سياسيا، فحيدر العبادي سمى تكتله الانتخابي (تحالف النصر) نسبة إلى (النصر على داعش)، وهادي العامري، زعيم مليشيا بدر المرتبطة بإيران، سمى تحالفه (تحالف الفتح) نسبة إلى (الفتح الذي حققه على داعش) وكل القوى (السياسية) العراقية المسلحة الأخرى ادعت بأنها هي التي قدمت التضحيات وانتصرت على داعش. حتى أن أحد (السياسيين) سرب خبرا كاذبا إلى وسائل الإعلام بأن ابنه قد (استشهد) في المعارك ضد داعش، ثم سارع في اليوم التالي إلى (نفي الخبر) قائلا إن ابنه مازال يحارب في المعركة ولم يستشهد!

ومع كل هذا الصخب وهذه المتاجرة السياسية بداعش، فإن الحقيقة هي أن داعش، وإن تراجعت، لكنها باقية كما أظهرت عملياتها الأخيرة، والجماعات السياسية، بدلا من أن تدعم الجيش والقوى الأمنية النظامية، كي تكون قوية وموحدة وقادرة على الدفاع عن العراق، ظلت تتصارع فيما بينها على اقتسام المغانم، بينما بقي النازحون في المخيمات منذ عام 2014 حتى الآن. والأسوأ من ذلك، أن المليشيات المرتبطة بإيران ارتدت على حلفاء العراق الأقوياء من الدول الأخرى التي هبت لمساعدته ومكّنته من إلحاق الهزيمة بداعش، مستجيبةً لنداء حكومته، وبدأت تهاجم القواعد والثكنات العسكرية العراقية التي تستضيف قواتٍ أجنبيةً ساهمت مساهمة فعالة في دحر داعش، فلولا الاسناد الجوي والمعلومات الاستخبارية الدقيقة لما تمكن العراقيون من من إلحاق الهزيمة بداعش. بينما بقيت الحكومة عاجزة عن اتخاذ أي إجراء رادع بحقها.

ولم تكتفِ الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران بالهجمات العسكرية بل دخلت المنطقة الخضراء بإذن مسبق من حكومة عادل عبد المهدي، التي تعتبر أضعف حكومة في التأريخ، واعتدت على مقر البعثة الدبلوماسية الأمريكية، ومرة أخرى، دون أن تتخذ الحكومة أي إجراء.

لم تكترث هذه الجماعات المسلحة لمصلحة العراق ولا لملايين النازحين الذين فروا بأرواحهم من ساحة الصراع، والذين منعتهم المليشيات من العودة إلى ديارهم بعد (تحريرها) من داعش، بل كان همها الأكبر هو مساندة إيران التي تعادي أمريكا لأسباب أيدلوجية ونفسية. ولم تكتفِ بالأعمال العسكرية ضد القوات الأجنبية في العراق والاعتداء على السفارة الأمريكية، بل أخذت تتدخل في الشوؤن السياسية العراقية، فعندما كلف رئيس الجمهورية، النائب عدنان الزرفي بتشكيل الحكومة، أصدرت بيانا قالت فيه إنها (لن تسمح لهذا العميل بتشكيل الحكومة) معتبرة النائب في البرلمان العراقي والحاكم المنتخب السابق لعشر سنوات لمحافظة النجف الدينية (عميلا)! دون أدنى اكتراث للأعراف السياسية والناخبين العراقيين الذين انتخبوه، أو لثمانية وثمانين نائبا وقعوا على عريضة تطالب رئيس الجمهورية بتكليفه وسبعين نائبا آخر أيدوا ترشيحه. وانتهى الأمر بالزرفي إلى التخلي عن التكليف بسبب هذه التهديدات، فاضطر الرئيس لتكليف رئيس جهاز المخابرات، مصطفى الكاظمي، بتشكيل الحكومة.

ولكن رغم كل الصخب الإعلامي وإطلاق الصواريخ على السفارات والثكنات العسكرية واختطاف النقاد من الصحفيين والناشطين والمثقفين والأكاديميين وقتلهم، فإن الجماعات المسلحة أصبحت منبوذة ولم تعد مؤثرة في الشارع بعد أن انكشفت كل أكاذيبها وادعاءاتها. اتضح لمعظم العراقيين أنها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تؤمن بعراق مستقل ولا بدولة عصرية. بل هي تريد ربط العراق بإيران، بغض النظر إن كانت إيران دولة ناجحة أم فاشلة، مارقة أم ملتزمة بالقانون الدولي، قوية أم مهلهلة ومحاصرة دوليا. حتى قادة إيران لا يحلمون بمثل هذا الولاء الأسطوري غير المشروط لها من قبل أفراد يسمون أنفسهم (سياسيين عراقيين).

وعلى رغم أن القوى المرتبطة بإيران تمكنت من إقصاء مرشح رئاسة الوزراء، عدنان الزرفي، الذي كان يسعى لتثبيت دعائم الدولة العصرية المستقلة المتفاعلة مع المجتمع الدولي، إلا أنها اضطرت في النهاية لأن تقبل برئيس وزراء غير تابع أو خاضع لها، ولا تتحكم أو تثق به، وأصبح أقصى أملها هو ألا يكون الكاظمي معاديا لها، وقد جنت على نفسها براقش، فهي التي جلبت كل هذا التراجع على نفسها بسبب تبعيتها لإيران وعدم اكتراثها لمصلحة العراق وآراء العراقيين وأرواحهم وحرياتهم. لقد حاول رئيس الوزراء الجديد أن يستميل المليشيات عبر زيارته مقرها والتأكيد بأن (الحشد الشعبي) جزء مهم من القوة العسكرية العراقية وأنه سيبقى وسوف يشارك في المعارك المقبلة التي ستقضي على داعش. كما التقى برئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض الذي كان المحتجون يأملون بأنه سيكون أول من يقال من منصبه ويحال إلى القضاء عن دوره في قمع الانتفاضة.

ومن الهفوات التي ارتكبها الكاظمي هي امتداحه حكومة عادل عبد المهدي يوم تسلمه السلطة منها والادعاء بأن لها إنجازات وأنها (ظُلمت)! مثل هذه التصريحات أضرته كثيرا وجعلته يبدو غير مكترث للجرائم التي ارتكبتها حكومة عبد المهدي بحق المحتجين. هناك على الأقل سبعمئة شاب في عمر الزهور سقطوا صرعى في ساحات وشوارع المدن العراقية خلال أربعة أشهر من الاحتجاج، بالإضافة إلى 25 الفا بين مخطوف وجريح ومعاق.

رئيس الوزراء الجديد يتحدث بكثرة عن إجراء الانتخابات المبكرة، لكن الحقيقة هي أن الانتخابات المبكرة لن تُجرى، وهناك شكوك بإمكانية إجرائها حتى في موعدها المقرر في منتصف عام 2022، فهناك معوقات حقيقية وقانونية لإجرائها، منها أن قانون الانتخابات الجديد الذي أقره البرلمان رسميا، لم يُرسل إلى رئاسة الجمهورية حتى الآن، وهو لن يصبح قانونا إن لم تتسلمه الرئاسة. وهناك من يقول إن (الشيعة) سيعارضون القانون الانتخابي الجديد لأنه سوف يعطي (السنة) 12 مقعدا إضافيا في بغداد! كما إن المحكمة الاتحادية، التي تضطلع بمهمة تسلم الطعون الانتخابية وإقرار نتائج الانتخابات، مشلولة حاليا بسبب تقاعد أحد أعضائها بينما يشترط قانونُها حضور جميع الأعضاء من أجل انعقاد جلساتها واتخاذ قراراتها. وأخيرا فإن الانتخابات تحتاج إلى تمويل ووقت للإعداد لها ومازال القانون غائبا والمحكمة مشلولة، فإن احتمال إجراء الانتخابات بعد عامين سيكون مستبعدا.

المحتجون مازالوا مغيبين عن المشهد بسبب أزمة كورونا والحجر الصحي الذي تفرضه الحكومة، لذلك لا يوجد ضغط على حكومة الكاظمي حاليا كي تفي بهذا الشرط المهم، ولكن على الحكومة، إن كانت حقا تكترث لمطالب المحتجين والجرائم التي ارتكبت بحقهم، أن تنفذ ما تستطيع القيام به، وهو تشكيل لجنة قضائية للنظر في مسألة قمع المتظاهرين وقتلهم والتحقيق مع أعضاء حكومة عادل عبد المهدي لمعرفة من هو المسؤول عن اتخاذ قرار المواجه المسلحة مع الشعب. وفي كل الأحوال، فإن المحتجين سيعودون قريبا وسوف تضطر الحكومة لأن تستجيب لهم، أو تلقى مصير حكومة عادل عبد المهدي. وفي هذه الأثناء، ورغم الظروف الصعبة، فإن المحتجين مطالبون بأن ينظموا أنفسهم لخوض الانتخابات المقبلة متى ما قررت الحكومة إجراءها.

حميد الكفائي