الصديق الصدوق عدنان حسين يستعجل الرحيل

حميد الكفائي
 
10/10/2019

لا أتذكر متى التقيت بالصديق عدنان حسين الذي غادرنا اليوم، ولكن أشعر بأنني أعرفه منذ عقود طويلة، إذ كنا نلتقي في النشاطات الثقافية العراقية في مراكز عديدة خصوصا ديوان الكوفة، وكذلك في المحاضرات المتفرقة التي تقيمها الجالية العراقية في بريطانيا. وكنت أزوره في مقر عمله في الشرق الأوسط ويزورني في مقر عملي في بي بي سي وقبلها في مركز الأبحاث الاقتصادية. وكنت أقرأ مقالاته في الشرق الأوسط، وكانت كلها ذات علاقة وطيدة بالعراق وقد كُتبت بشكل أنيق وبحثت مواضيعُها بشكل جيد فعدنان لا يكتب إلا الجديد والمفيد.

جمعتنا أيضا صداقات أخرى، فقد كنا دائما نلتقي بوجود صديقنا الحميم، الراحل الكبير فالح عبد الجبار، الذي كان دائما يجمعنا عندما يعود إلى لندن من بيروت. ولدينا أصدقاء مشتركون آخرون كثيرون، منهم ميسون الدملوجي وحسن الجنابي وعواد ناصر وآخرون. وكذلك صديقنا المشترك الأثير، د. أسامة فاضل الجمالي، الذي لا التقي به إلا وعدنان معي، وكان آخر لقاء جمعنا في صيف العام الماضي، وكان بدعوة من أسامة في مكان لندني راق يليق بأسامة، يُسمى (تجميعات ووليس- The Wallace Collections) وسط لندن. وعندما زار أسامة لندن قبل شهر، دعوته كالعادة إلى لقاء في مطعم تركي شمالي لندن، وجمعت أصدقائي كي يلتقوا به، وكان يتوقع أن يرى عدنان بينهم، لكن عدنان كان غائبا للأسف بسبب مرضه. طلب مني أسامة أن نزوره معا، ولكن للأسف لم تسمح صحة عدنان بلقاء جديد، فقلت لأسامة، في زيارتك المقبلة إلى لندن، سيكون عدنان قد تجاوز أزمته الصحية، وسوف نلتقي معا كما اعتدنا. لم يخطر ببالنا أن عدنان سيغادرنا بهذه السرعة.

لم ننقطع أنا وعدنان عن التواصل طوال العقود الثلاثة المنصرمة سواء في لندن أو الكويت أو العراق، عبر الهاتف أو الإيميل أو الواتس آب أو اللقاء المباشر، فلم نكن نسكن بعيدين عن بعضنا وطالما ذهبنا معا لحضور المحاضرات واللقاءات والنشاطات الثقافية. مشتركاتنا كثيرة ولا أتذكر أننا اختلفنا اختلافا حادا على شيء محدد على رغم تباين الآراء أحيانا. عندما تركت عملي في بي بي سي وعدت إلى العراق عام 2003، زارني عدنان في مجلس الحكم وأخبرني بأنه هو الآخر مرشح لأن يتولى موقعا معينا في الدولة، لكنه آثر البقاء صحفيا مستقلا، وكان دائما يلومني على تركي عملي الصحفي في بي بي سي والتوظف في الدولة العراقية الجديدة، وكنت في البداية استنكر رأيه هذا، لكنني أدركت لاحقا عمق تفكيره. وفي النهاية، لم استمر طويلا في العمل ضمن النظام القائم بسبب اختلاف توجهاتي مع توجهات الذين استولوا على الحكم، وممارستهم مضايقاتٍ شتى معي كي (أطفش وأغادر) إذ أرادوا الدولة كلها لهم، وإبعادَ كلِ من يختلف معهم في الرأي، أو من لم يكن مطيعا لهم وتابعا، تماما كما كان يفعل صدام حسين، بل إنهم زادوا على صدام أنهم استخدموا الدين والمذهب (وكيف أنسى المذهب؟) ذريعة لإقصاء الآخرين والاستحواذ على كل شيء وكأن الدين (والمذهب… كيف أنسى المذهب)، إلى جانب الدولة، ملك خالص لهم منحه إياهم الخالق عز وجل، وليس مشاعا للآخرين أيضا.

بقي عدنان وفيا للصحافة التي أحبها ومارسها منذ تخرجه من كلية الصحافة في جامعة بغداد عام 1970. وبعد 15 عاما من العمل المتواصل في جريدة الشرق الأوسط الدولية في لندن، غادر عدنان موقعه المهم في الجريدة بعد ان اختلف مع رئيس تحريرها الجديد، وقد غادرها بهدوء ولم ينطق بكلمة واحدة عن سبب المغادرة. وعندما الححت عليه قبل عامين تقريبا أن يطلعني على سبب مغادرته، شرح لي الخلاف بإيجاز وقال إن الإدارة العليا للجريدة طلبت منه أن يستمر في العمل، وألا يهتم للخلاف مع رئيس التحرير الجديد، لكنه فضل المغادرة لأن عدم الانسجام مع رئيس التحرير لن يجعل العمل سهلا.

لم يجلس عدنان طويلا في بيته عاطلا عن العمل، فهو صحفي متمرس وذو سمعة طيبة في الأوساط الصحفية العربية وتتمناه كل مؤسسة محترمة. وبعد فترة وجيزة اتصلت به إدارة جريدة (أوان) الكويتية عارضةً عليه العمل مديرا للتحرير فيها، فوافق وانتقل إلى الكويت وبقي هناك عدة سنوات حتى أغلقت الصحيفة، وبعدها مباشرة، طلبته جريدة المدى البغدادية ليتولى رئاسة تحريرها، وبقي يدير جريدة المدى حتى إصابته بمرض السرطان في ديسمبر عام 2018. كان عدنان يكتب عمودا يوميا في المدى وكنت أقول له يا أبا فرح، كنت أقرأ كل مقالاتك عندما كنت في الشرق الأوسط وأوان، ولكن الآن اصبح من الصعب متابعة كل ما تكتب بسبب كثرته. اقترحت عليه أن يكتب اسبوعيا لكنه أصر أن يكتب عمودا يوميا تحت عنوان (شناشيل) وكان حقا من أهم الاعمدة في جريدة المدى، إلى جانب العمود الذي يكتبه الكاتب المبدع علي حسين.  

لم يخبر عدنان أحدا بمرضه، حتى أقرب أصدقائه، وهم أنا وعواد ناصر، بل دخل المستشفى بهدوء تام. كنت اتصل به لترتيب لقاء فيعتذر لكونه يعاني من وعكة صحية عارضة. لكنني أصررت أن أزوره مازال مريضا كي أجلب له الورد وأطمئن على صحته. رجاني أن أؤجل زيارتي له فرفضت لأنني دائما استثمر وجوده في لندن كي نلتقي قبل أن يعود إلى العراق. عندها أخبرني قائلا “دعني أغادر المستشفى أولا ثم زرني في البيت”! وحينها عرفت أنه في المستشفى. هرعت إلى المستشفى فوجدته في ردهة خاصة وكانت ابنته فرح معه. بدا لي عدنان معافى فلم يتمكن منه المرض بعد وقد أخبرني بأن المسألة بسيطة وكلها أسبوع أو أسبوعين ويعود إلى البيت.

 

مضى أسبوع واسبوعان ولم يعد عدنان فذهبت لزيارته مرة أخرى إلى المستشفى. وكان قد أعيد إلى الردهة العامة مع باقي المرضى، ما يعني أن وضعه قد تحسن، وقد بدا لي معافى إذ استمر طوال تلك الفترة في كتابة مقالاته لجريدتي المدى والشرق الأوسط. آخر مقال كتبه عدنان نشر في الشرق الأوسط بتأريخ 18/3/2019. وبعد هذا التأريخ بدأت صحته بالتدهور وعندما كتبت له رسالة على الواتسآب، أجابني بكلام غير مفهوم. فكتبت له باللغة الإنجليزية، إذ خشيت أن يكون تلفونه جديدا ولم يدخل اللغة العربية فيه، فأجابني بحروف إنجليزية مرتبكة… قلقت عليه واتصلت بفرح فطمأنتني أنه بخير “لكنه يأخذ علاجا يؤثر على تركيزه أحيانا. اتصل به بعد أسبوع فربما يكون قد تحسن”. ظللت اتواصل مع فرح ثم مع عمر كي أعرف أخبار عدنان وكانا يطلعانني على أخباره.

وفي أحد الأيام، في تموز الفائت تحديدا، رن هاتفي المحمول. أجبت وكان على الطرف الآخر عدنان حسين بصوته المميز (وينك يا أبا علا. تعال وزُرني. أنا في البيت)! كدت أطير فرحا لهذا الاتصال إذ بدا عدنان بخير تماما وقد تحدثنا لبضع دقائق. كان اليوم خميسا، واتفقت معه أن نلتقي يوم السبت.

 

لم استطع أن أكتم هذا الخبر السعيد عن أصدقائي، فأعلنته لمجموعة الواتس آب الوحيدة التي انتمي إليها، (لِبراليون)، وقلت للأصدقاء إنني سأعلن عليكم خبرا مفرحا وبالصور يوم السبت، فانتظروني. ذهبت السبت إلى منزله ورأيته وكان بخير ويتحدث مع ضيوفه بكل اطمئنان… التقطت له صورا ونشرتها في الفيس بوك وأخبرت الجميع أن عدنان حسين بخير وسيعاود نشاطه قريبا.

للأسف لم تدُم فرحتنا بشفاء عدنان، ولم تسِر الأمور على ما يرام، إذ بدأت صحته تتراجع وكلما طلبت من نجله عمر أن أزوره، ينصحني بتأجيل الزيارة لبضعة أيام، حتى أخبرني اليوم أن أباه قد فارق الحياة.

 

كان وقع الخبر صاعقا. ظللت صامتا لبرهة لا أعرف ماذا افعل. خنقتني العبرة لكنني كنت في مكان عام لا استطيع فيه أن أبوح بمشاعري، فخنقتها كمدا.

عدنان أكثر من زميل وأكثر من صديق. كنت أشعر بأن لي صديقا عملاقا يمكنه أن يذلل كل المعضلات من أجل أصدقائه. وقد كان عدنان هكذا فعلا. فليس هناك ما لا يستطيع فعله، هكذا كان ينظر إلى الحياة. كل شيء ممكن إن توفرت الإرادة. وحتى عندما مرِض، قال لي (نعم أنا مصاب بالسرطان لكنني مؤمن بأنني قادر على إلحاق الهزيمة بالمرض).

كان أصدقاؤه من كل ألوان الطيف الإنساني. من فالح عبد الجبار إلى محمد بحر العلوم إلى أحمد الجلبي، وطالما دعاني أن أرافقه إلى مجلس أحمد الجلبي في قصر السيف في بغداد أيام الجمعة، لكنني رفضت لأسبابي الخاصة. كان يقول لي عندما نلتقي في شارع المتنبي أيام الجمعة (ارجوك يا أبا علا، تعال معي فأحمد الجلبي سيفرح عندما يراك)! لكنني لم أفعل فقد كنت أعتب على الراحل الجلبي في أمور كثيرة لا مجال لذكرها الآن. والحق يقال فإن أحمد الجلبي كان يحبني كثيرا وطالما أغدق علي صفات لا استحقها في كل لقاء جمعني به.   

 

غادرنا عدنان حسين جسدا، لكنه سيبقى في ذاكرتنا ووجداننا، صديقا صدوقا صادقا مبدئيا خلوقا كريما متواضعا متسامحا ذا شرف وبأس عظيم. كان شجاعا لا يخشى في الحق لومة لائم وكنت دائما أقول له (وجودك في العراق يا أبا فرح يعطيني أملا بأن العراق سوف ينهض يوما).

 

رحيل عدنان أحدث ثلمة في حياتي التي كان جزءا مهما منها. كيف ازور العراق ولا أجده في جريدة المدى؟ كيف أتجول في شارع المتنبي ولا التقي بعدنان فيه؟ كيف يمر أسبوع دون أن اتلقى منه الرسائل والمكالمات؟ كل مكان في لندن وبغداد والكويت يذكرني بعدنان حسين. يا إلهي ماذا أفعل…

أعود إلى مقولتي القديمة التي قلتها عندما مرض أحد أصدقائي قبل خمس سنوات:

 ساعةٌ مع صديقٍ حميم تعادلُ صدماتِ الدهر
ولفتةٌ نبيلةٌ منه تُمحو همومَ السنين
وانتباهةٌ حصيفةٌ تخففُ وطأةَ الآلامَ  
صديقي نفسي، لا فرق
مع الأصدقاء تكثُرُ المباهجُ وترتقي الأحلام 
وتزولُ الهمومُ وتُشحَذ الهمم
لكنها ليست بلا ثمن

نعم ليست بلا ثمن… فكل يوم ندفع الثمن باهظا.

حميد الكفائي

10 تشرين الأول 2019