متى تنتهي الإدارة العشوائية للاقتصاد العراقي؟

الحياة 10/8/2019

يتحدث اقتصاديون كثيرون عن ضرورة تنويع الاقتصاد ومصادر دخل الدولة، والابتعاد من الاقتصادات الريعية المعتمدة على مصدر واحد للدخل كالنفط. وما يقوله الاقتصاديون صحيح، لأن المصادر الطبيعية يمكن أن تنضب أو تنخفض أسعارها بسبب قلة الحاجة إليها نتيجة توفير بدائل صناعية لها. لذلك، فإن الاعتماد عليها يشكل مخاطرة. والبلد الذي يصمم إيراداته على مصدر واحد، يخاطر بإحداث أزمة قد تهدد تماسكه وقوت مواطنيه وربما وجوده على الأمد البعيد. ومن أجل تفادي هذه الأخطار، تسعى معظم الدول الريعية إلى تنويع اقتصاداتها لتتجنب الصدمات المفاجئة مثل هبوط الأسعار أو نضوب المصادر الأولية.

 
كثيرون في العراق أيضاً يتحدثون عن ضرورة تنويع مصادر الدخل وتشجيع الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات ومصادر الدخل الأخرى، باعتبار أن الاقتصاد الريعي ليس مأموناً، ولا يمكن الاعتماد عليه. ولكن هل الاقتصاد العراقي ريعي بالمعنى المعتاد السائد في البلدان الأخرى؟ الحقيقة أنه ليس اقتصاداً ريعياً حقيقياً ولا يمكن تصنيفه كذلك في عرف الاقتصادات الريعية المستقرة، كما في دول الخليج، التي توزع الثروة على مواطنيها ولا تدع أحداً يعيش في بيت من صفيح أو يبحث عن المفيد في أكياس القمامة الملقاة في المزابل كما يحصل في العراق. وهذا المنظر كنت أراه بعيني يومياً وكنت وما أزال مذهولاً، كيف يجلس حكام العراق على كراسيهم الوثيرة، مرتاحي الضمير، وهم يرون مناظر الفقر المدقع منتشرة حولهم من دون أن يتخذوا إجراءً يحد منها.
 
الاقتصاد العراقي في الحقيقة اقتصاد عشوائي يستمد أمواله من ريع النفط، لكنه ليس اقتصاداً مستقراً، بل تعبث به مافيات طفيلية تعتاش على السرقة والنهب والإجرام والتهريب. مافيات وعصابات مسلحة مرتبطة بدول أخرى، ومستغلة ضعف الحكومة، وجدت في العراق “منجماً” للثراء السريع. وهذه الثروة المسروقة لا تُستثمَر داخل البلد وتنشئ مشاريع خدمية أو إنتاجية يستفيد منها الناس، بل تُهرَّب إلى الخارج لتنتفع منها دول أخرى. وحتى الوزراء والوكلاء والسفراء والمدراء عندما يتقاعدون، فإنهم يعيشون في بلدان أخرى. فالعراق “لا يليق بهم” على ما يبدو، علماً أنه مصدر ثروتهم. أما رجال الأعمال، فمعظمهم يعيش خارج العراق على رغم أن ثراءهم ومجال تجارتهم هو العراق.
 
السلطة النقدية في العراق مستقلة (رسمياً) وهي مناطة بالبنك المركزي العراقي وفق القانون رقم 56 لعام 2004. لكن البنك المركزي يدار وفق إرادات سياسية، خصوصاً بعد إجبار محافظه المستقل، سنان الشبيبي على الاستقالة في عام 2012 لأنه لم يستجب لطلب رئيس الوزراء بتسخير احتياطي البنك من العملة الأجنبية (نحو 70 بليون دولار) في مشاريعه السياسية. لكن الاستقلال الرسمي للبنك المركزي لا ينعكس على سياساته التي يساير بها الحكومات المتعاقبة، والتي كان بعضها مدمراً للاقتصاد الوطني. ونأمل من المرشح الجديد لإدارة البنك المركزي، البروفيسور علي علاوي، المعروف بالخبرة والحزم والنزاهة، أن ينأى بالبنك المركزي العراقي عن المؤثرات السياسية مهما كلفه ذلك من تضحيات. ولا بد من الإشادة بقرار اختياره لإدارة البنك المركزي الذي يسجل لرئيس الوزراء عادل عبدالمهدي.
 
إحدى السياسات التي قادت إلى كارثة اقتصادية، هي مزاد بيع العملة الذي تسبب في تبذير الثروة وتحطيم الاقتصاد. البنك المركزي يتحكم ببيع العملة الأجنبية منذ عام 2004 وحتى اليوم. والعراق ينفق سنويا مبالغ طائلة فاقت في بعض السنوات 50 بليون دولار للدفاع عن العملة العراقية وإبقاء سعر الدينار مرتفعاً أمام الدولار، وفي الوقت ذاته يشتري النقود العراقية المستحصلة من الفساد بالعملة الصعبة!
 
حجة البنك المركزي هي “كبح التضخم”. نعم، التضخم سيء والاستقرار النقدي مطلوب، ولكن هناك طرقاً أخرى لتحقيق استقرار الأسعار غير تبديد المال وإلحاق أضرار هيكلية بالاقتصاد العراقي. لا عتب على السياسيين والمسؤولين العراقيين فأكثرهم لا يفقهون شيئاً في الاقتصاد، وهذا واضح في تصريحاتهم، ولكن هل يعرف مديرو البنك المركزي أسباب التضخم الحقيقية؟ أليس سوء توزيع الثروة هو سبب أساسي للتضخم؟ خصوصاً في العراق، فغالبية الشعب من الفقراء لا يمتلكون المال اللازم لشراء حاجياتهم الأساسية، وبسبب قلة المشترين، الناتجة عن انعدام القدرة المالية، ترتفع كلفة الإنتاج والنقل والتخزين وتضاف إلى الأسعار. فسوء توزيع الثروة، سبب رئيس من أسباب التضخم وهو أيضا سبب رئيس للبطالة والانكماش الاقتصادي الذي يقود إلى ارتفاع معدل الجريمة وتدني التعليم والخدمات وقيم المجتمع.
 
التفسير “الكينزي” للتضخم، وهو عدم قدرة المنتجين على تلبية الارتفاع في الطلب على السلع والخدمات ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، يفسِّر حالة واحدة من حالات التضخم وليس كل الحالات. بعبارة أخرى، أن التضخم في رأي جون مينارد كينز هو عبارة عن “أموال كثيرة تطارد سلعا قليلة”، لكن هذا التفسير لا يشمل كل حالات التضخم بل حالة واحدة منه. نقص الأموال عند غالبية المجتمع وتراكمها عند مجموعة قليلة من المتنفذين سبب رئيس للتضخم والكساد، وهو أهم بكثير من السبب السابق.
 
مزاد بيع العملة سيف ذو حدين يذبح الاقتصاد العراقي كل يوم. فبالإضافة إلى الأموال المهدورة في دعم سعر الدينار، والتي تبقي سعره مرتفعاً في شكل استثنائي غير مرتبط بالنشاطات الاقتصادية، فإن هذا الارتفاع يجعل الواردات رخيصة مقابل المنتجات المحلية، وهذا الوضع يدمر الانتاج الوطني ويجعله غير قادر على المنافسة. لذلك، أصبح العراق يستورد القمح والأرز والطماطم والبرتقال والمنتجات الحيوانية وحتى الماء من الخارج. بل حتى الطوب والاسمنت اللذان تميز العراق بإنتاجهما وكان يصدرهما إلى البلدان الأخرى أصبح الآن يستوردهما. أما التمر المستورد فهو يملأ الأسواق، وهذه لعمري فضيحة مجلجلة للحكومات العراقية، فالعراق أرض النخيل منذ الأزل.
 
ومن نتائج مزاد بيع العملة، نشوء مئات البنوك والشركات الوهمية التي تستغله لتهريب العملة إلى الخارج والاستفادة من الفرق بين سعري الصرف، السوقي والرسمي. وقد يصل الفرق بين السعرين أحيانا إلى 10 في المئة. ومعظم القادة السياسيين لديهم بنوك وشركات تستفيد من بيع العملة الأجنبية وعمليات غسل الأموال وتبييضها. وهؤلاء يثرون على حساب المال العام بينما تتواصل معاناة الفقراء من البطالة وتردي الخدمات والسكن في بيوت الصفيح في بلد يعتبر من أغنى بلدان العالم!
 
لا أدري لماذا اختار البنك المركزي (المستقل) سعر الصرف الثابت الذي يحتم عليه أن يبذر أموال البلد للحفاظ على سعر الدينار. لماذا لا تعمل الحكومات العراقية على أن يكون لديها اقتصاد مستقر وتترك سعر الصرف “معوما” تحدده قوى السوق؟ كما تفعل معظم دول العالم؟
 
أحد أهم أسباب نمو الاقتصاد الصيني هو انخفاض سعر العملة، التي جعلت الصادرات الصينية رخيصة في الأسواق العالمية. وأهم خلاف بين الصين وأميركا هو حول سعر صرف اليوان الذي تعتبره الولايات المتحدة منخفضاً بشكل غير طبيعي. صحيح أن العراق لا يمتلك حالياً بضائع يصدرها غير النفط، ولكن الاستمرار في دعم العملة العراقية سيضمن استمرار هذه الحالة المدمرة لمستقبل العراق.
 
ليست هذه دعوة لاتخاذ إجراءات حمائية لحماية المنتجات العراقية، كرفع التعرفة الجمركية على الواردات مثلا، فمثل هذه الإجراءات عفا عليها الزمن ولم تعد مجدية، ولكن يجب الانتهاء من عشوائية الإدارة، وتنظيم الاقتصاد بحيث يتمكن من المساهمة في الاقتصاد العالمي وإنتاج بعض ما يُستهلك محلياً بعيدا من الاعتماد على تصدير المواد الأولية.
 
حميد الكفائي