Image result for abbas kelidar

عباس الكليدار: آخر الراحلين من جيل العمالقة

الحياة: 4 تموز 2019

لم أسمع بعباس الكليدار قبل العام 1982، فالرجل غادر العراق منذ نهاية الخمسينات واستقر في بريطانيا، واتخذ من الإنكليزية لغة للكتابة والعمل، إذ دوَّن كل مؤلفاته ومقالاته باللغة الإنكليزية. إلا أنني عندما كنت طالبا في “كلية وسط لندن التكنولوجية” (“جامعة ويستمنستر” حاليا) في العامين 1981 و1982 ، عثرت في مكتبة الجامعة، على كتاب عن العراق لمؤلفه عباس الكليدار، فالتقطته وبدأت أقلب صفحاته وأخذت أقرأ في مقدمته حتى وصلت إلى فقرة تتحدث عن مكونات الشعب العراقي التي حددها الكتاب بأنها: “سنة عرب وشيعة يتحدثون العربية” وكرد وتركمان وآشوريون”! عندها توقفت عن القراءة وأغلقت الكتاب وأعدته إلى مكانه، وحكمت على كاتبه بأنه مغرض يحاول بث الفرقة في صفوف الشعب العراقي وقد يكون إيرانياً. فالإيرانيون بشكل عام، لا يريدون أن تكون للعراق أي صلة بالعرب، ودائما ما يقللون من عروبته، عبر تركيزهم على الشيعة وتمييزهم عن باقي العراقيين، باعتبار أنهم يشتركون معهم في المذهب.

 
أزعجني التوصيف، لكن المسألة انتهت في وقتها، فما أكثر الذين يحاولون بث الفرقة بين العراقيين، إذ أن العراق محاط ببلدان كل منها يرى أن له حقاً (تاريخياً) فيه. إيران لم تتقبل حتى الآن أنه دولة ذات سيادة وهوية مستقلة، وأن له شعباً مختلفاً قومياً وثقافياً ولغوياً عن شعبها، وأن عهد الإمبراطورية الفارسية ولى منذ مئات السنين. أما تركيا، فأُجبِرَت على التخلي عن ثلث العراق في عام 1925، لكن الأتراك ما زالوا يتصرفون وكأن شمال العراق حديقتهم الخلفية، فقواتهم تعسكر هناك تحت ذرائع شتى، بينما يدخل مسؤولوهم العراق من دون إذن من حكومته أو حتى علمها. وفي سورية هناك (القوميون السوريون) الذين يعتقدون أن العراق جزء من “سورية الكبرى” وأنه يجب أن يعود إليها يوماً! وينسى هؤلاء أو يتناسون أن العراق أعرق من دولهم، فعمره كبلد قائم ضمن حدوده الحالية تقريباً، يربو على سبعة آلاف سنة، وتعاقبت على أرضه الامبراطوريات وبقي دولة تتميز بتنوع الأعراق والأديان والثقافات واللغات.
 
مرت السنون على تلك الحادثة، وكنت نسيتها كلياً لو لم التق بالبروفيسور عباس الكليدار في بيت صديقتنا المشتركة لمياء الكيلاني بعد أكثر من عقدين عليها. وبعد أسئلة التعارف الأولية، سألته إن كان هو مؤلف كتاب “العراق: البحث عن الهوية”، فقال: “نعم”، فذكّرته بأنني اطلعت على بعض كتبه وأفكاره وأنني اختلف مع بعض الأفكار الواردة فيها اختلافاً جذرياً، فرحب بالاختلاف، ثم ذكرته له قصة تصفحي أحد كتبه في عام 1982 وامتعاضي من تقسيمه العراقيين إلى (سنّة عرب وشيعة يتحدثون العربية) في وقت ينتمي السنة والشيعة إلى القبائل العربية ذاتها. سألته كيف توصل إلى هذا الرأي الخطير الذي يزعج معظم العراقيين؟ استغرب المعلومة ونفى نفياً قاطعاً أن يكون كتبها قائلا إنه ابن قبيلة عربية أصيلة ولا يمكن أن يشكك بأنساب العراقيين. غير أنني كنت متيقناً من أنني قرأت المعلومة في كتابه، وهو ما دفعني إلى قطع صلتي بكتاباته، لكنه ظل مستغرباً ونافياً أنه كتب ذلك.
 
 
وفي صباح اليوم التالي، دق جرس هاتفي فأجبت وإذا به البروفيسور عباس الكليدار. بادرني القول: “لقد راجعت الكتاب المذكور وأنت على حق في ما قلته، إذ وجدت التصنيف المسيء للعراقيين فيه، لكنني لم أكتب حرفاً واحداً منه، وإن ذلك المقطع أضافه الناشر كمقدمة من دون علمي”. سألته لماذا يا ترى يضيف الناشر معلومة خاطئة عن العراق من عنده؟ هل هو من القوميين الإيرانيين؟ أجاب: “ربما”. وبعد أسبوعين تقريبا دعاني إلى بيته مع عدد من أصدقائه وسرد لهم قصتي مع أحد كتبه وكانت أمسية ممتعة بصحبة عالم جليل. ينتمي الكليدار إلى عائلة معروفة في مدينة الكاظمية في بغداد تقع عليها مسؤولية إدارة “أوقاف الإمام الكاظم”، بما فيها الضريح، كما يشير اسمها الذي يعني (حامل مفاتيح الدار).
 
عمل الكليدار أستاذاً في العلوم السياسية في “جامعة لندن” – “كلية سواس”- لربع قرن تقريباً، وكانت محاضراته العامة حافلة بالمثقفين وطلبة العلم. ومن الطرائف التي ساقها لي أنه في كل محاضرة يلقيها كان يجد صديقه البروفيسور صفاء خلوصي جالسا في المقدمة، وبعد أن تنتهي المحاضرة يسأله خلوصي سؤالا واحدا يتكرر باستمرار: “متى كانت آخر زيارة لك إلى العراق”؟ وعندما يجيبه، يكتفي بالقول: “شكراً”. كان سؤال خلوصي يهدف إلى تنبيه الحاضرين إلى أن معلومات الكليدار ليست دقيقة لأنه يعيش خارج العراق منذ زمن بعيد. وخلوصي مؤرخ وأديب عراقي مرموق وكان أستاذاً في الأدب العربي والإنكليزي في عدد من الجامعات البريطانية، وقبلها في “جامعة بغداد”، وكان شديد الاعتزاز بالعروبة، وهو صاحب فكرة أن الشاعر الإنكليزي وليام شكسبير عربي الأصل واسمه الأصلي “شيخ زبير”!
 
ارتبط الكليدار بعلاقة وثيقة بالعائلة المالكة الأردنية وعمل مستشارا لولي العهد الأمير الحسن بن طلال وكان يكتب له خطاباته المتعلقة بالثقافة والدين والتاريخ، باللغتين العربية والإنكليزية. وأخبرني أنه في إحدى المناسبات، طلب منه الأمير الحسن أن يزيل معلومة من خطابه باللغة العربية، ويبقيها باللغة الإنكليزية! وعندما سأله عن السبب، أجابه بأن المتلقين العرب لا يتحملون هذ المعلومة! امتاز الكليدار بكونه موسوعة معرفية إذ إن لديه خزيناً لا ينضب من المعلومات عن تأريخ المنطقة ومشاكلها ومعوقات التقدم فيها. كان ناقداً موضوعياً للسياسة العراقية على مر العصور وتتميز مؤلفاته بغزارة المعلومات وعمق التحليلات. كان يُدعى إلى عواصم العالم المختلفة لإلقاء المحاضرات عن القضايا السياسية والثقافية العربية. وإلى جانب كتبه عن العراق، كتب عن دول عربية أخرى منها كتاب “لبنان: انهيار الدولة والأبعاد الإقليمية للصراع” و”(مصر: مأزق الدولة” الذي اشترك معه فيه الكاتب البريطاني مايكل بوريل.
 
عاش الكليدار حياة مليئة بالنشاط والحيوية وكانت شقته في حي كنزينغتون غرب لندن ملتقى لأصدقائه، المتفقين والمختلفين معه على حد سواء، فالاختلاف في الرأي أمر عادي عنده. كان مع زوجته اللبنانية (ماج)، التي رحلت قبل ثلاث سنوات، يخدمان ضيوفهما بنفسيهما. وعلى رغم تجاوزه الثمانين، لم يبدُ الكليدار مُسِنّاً مطلقاً، بل بقي نشيطا منتصب القامة ومتوقد الذهن والذاكرة. أمضى في لندن ما يقارب الستين عاما، وكان أصدقاؤه يشْكِلون عليه ابتعاده عن بلده، ولكن، لم تكن العودة إلى العراق ممكنة زمن النظام السابق بسبب آرائه الناقدة للسياسة العراقية منذ تأسيس الدولة في عام 1921، وكان ذلك سيعرضه للمساءلة والسجن. بقي الكليدار متنقلاً بين بيروت ولندن، ولم يزر مسقط رأسه، بغداد، حتى بعد زوال الديكتاتورية. لم يدُر في خلدي يوما أنني سأرثي عباس الكليدار بعد ستة أشهر من رحيل صديقته لمياء الكيلاني التي التقيته في بيتها أول مرة وزارني بصحبتها آخر مرة. في العشاء الأخير الذي جمعنا، اعترف الكليدار بأن بعض تصوراته عن العراق لم تكن دقيقة. “لقد برهنت تجربة ما بعد العام 2003 أن هناك مشاكل عميقة يعاني منها المجتمع العراقي لم تكن في الحسبان”. برحيل عباس الكليدار، يقترب جيل العراقيين (العمالقة) من الانقراض. الجيل الذي اتسم أبناؤه بالجد والمثابرة والعمل الدؤوب والسعي الحثيث من أجل التميز والإبداع.
 
حميد الكفائي
                                   من يسار الصورة: البروفيسور عباس الكليدار، د. جميل طاهر، حميد الكفائي، ود. رشيد الخيون