حميد الكفائي لمجلة 
فورين بوليسي كونسبتس:

لا يمكن إقامة الديمقراطية تحت حراب الجماعات الدينية المسلحة

س: ما الذي قادك لتأليف هذا الكتاب؟

أوضحت في المقدمة الأسباب التي جعلتني أكتب هذا الكتاب. انا عارضت الدكتاتورية في العراق منذ منتصف السبعينيات وكنت منخرطا في فضح الأساليب الدكتاتورية للنظام الذي بذّر ثروة العراق على التسلح والحروب العبثية وارتكب فظائع وحشية بحق شعب العراق. وعندما سقط النظام عام 2003 كنت جزءا من الجهود الرامية إلى تأسيس نظام ديمقراطي في العراق. أصبحت الناطق باسم مجلس الحكم في العراق وهو أول مؤسسة عراقية تؤسس بعد سقوط نظام صدام حسين وشكلّتْ الحكومة الأولى وعملتْ إلى جانب سلطة الإئتلاف المؤقتة. كنت مساهما في قانون إدارة الدولة الذي مهد الطريق إلى أول انتخابات حرة في تأريخ العراق الحديث.  

رشحت في الانتخابات الديمقراطية الأولى للجمعية الوطنية ثم الانتخابات الثانية لأول برلمان عراقي في العصر الحديث، لذلك فإن لدي معلوموات دقيقة عما حصل. رأيت بأم عيني الانتهاكات التي جرت في العملية الانتخابية وكيف أن كلا من المشاركين في العملية السياسية لديه فهمه المختلف للديمقراطية والذي أضعف وربما نسف فكرة الديمقراطية من أساسها. رأيت سياسيين، كانوا دائما يدَّعون بأنهم أتقياء، رأيتهم يعملون بطرق مخادعة ويكذبون ويختلقون القصص ضد خصومهم السياسيين … رأيتهم يخالفون القانون من أجل تحقيق مكاسب سياسية. لقد رأيت تناقضات عجيبة لم أكن أتصور أنني سأراها يوما من الأيام. هذا هو الذي قادني لأن أدرس كل أنساق الديمقراطية كي أعرف إن كانت العملية الديمقراطية في العراق تنسجم مع أي منها.   

س: الديمقراطية العراقية مازالت مستمرة والانتخابات تجرى باستمرار وحكومات جديدة تشكل بعد كل انتخابات منذ عام 2003، لماذا تعتقد بأنها فشلت؟

الانتخابات وحدها ليست دليلا على وجود الديمقراطية الحقيقية. الانتخابات تُجرى في كل مكان هذه الأيام. صدام حسين كان يجري انتخابات أيضا، وكذلك روبرت موغابي. مهاتير محمد “أُنتُخِب” بعمر 93 رئيسا لورزاء ماليزيا! هناك شكوك بأن مثل هذه الانتخابات لا تمثل إرادة الشعب الحقيقية. الجماهير العراقية مستاءة جدا من القادة السياسيين، ولكن مع ذلك فإن القادة أنفسهم يُعاد انتخاباهم مرة بعد مرة! فأما أن هؤلاء القادة يزوِّرون الانتخابات أو ان الناخبين العراقيين يسهُل خداعُهم، وفي كلتا الحالتين هناك خلل حقيقي في الديمقراطية العراقية. كذلك لا توجد وسائل إعلام مستقلة ومهنية كي توضح للناس القضايا الحقيقية حتى يذهبوا إلى صناديق الاقتراع عارفين كيف يصوتون لما فيه مصلحتهم.

في الانتخابات الأولى اصدر قاة الشيعة الدينيون توجيهات لأتباعهم بالتصويت لقائمة الائتلاف العراقي الموحد (القائمة رقم 169) وقد اعتُبِر التصويت لتلك القائمة واجبا دينيا. كثيرون أطاعوا هذه التوجيهات وصوتوا وفقها. وهذا يعني أنهم لم يصوتوا حسب ما أملته عليهم ضمائرهم بل حسب رغبات قادتهم الدينيين. والشيء نفسه حصل في الانتخابات اللاحقة على الرغم من أنه حصل بشكل غير مباشر.انا اقتبست من حديث لأحد أهم الخطباء في العراق ألا وهو الشيخ جعفر الإبراهيمي الذي قال إنه روج للأحزاب الدينية التي لم يكن الناخبون يعرفونها وقد فعل ذلك نيابة عن المؤسسة الدينية. وقد احتفظت هذه الأحزاب نفسها بالسلطة حتى الآن. من العلامات التي تشير إلى نجاح الديمقراطية هو انتقال السلطة إلى المعارضة مرتين على الأقل، لكن هذا لم يحصل ولا حتى مرة واحدة في العراق.

س: الإسلاميون يشكلون القوى السياسية الرئيسية في البلاد ويبدو منطقيا أن السلطة ستبقى بأيديهم لأنهم يمثلون آراء ومصالح الغالبية. هل يبدو هذا نجاحا أم فشلا للديمقراطية؟

 لو صدقنا بنتائج الانتخابات فإن ما قلتَه يبدو صحيحا، لكن الحقيقة مختلفة تماما. الناس مستاؤون من الأحزاب الدينية بسبب فسادها وفشلها وكثيرون منهم صوتوا ضدها في الانتخابات الأخيرة لكن النظام الانتخابي غيره الإسلاميون عدة مرات ووظفوه لصالحهم. الإسلاميون لم يخدموا مصالح الناس التي صوتت لهم إنما خدموا مصالح قادتهم وعائلات هؤلاء القادة. أحد أسباب فشل الديمقراطية في العراق والذي ادرجته في الكتاب هو فشل الأحزاب العلمانية في أن تشكيل جبهة موحدة وتقديم مرشحين أقوياء وذوي مصداقية في الانتخابات. في المعسكر العلماني هناك العديد من الأحزاب الصغيرة المتنافسة فيما بينها والتي تعاني من التناحرات. أكبر هذه الأحزاب هو الذي يقوده أياد علاوي الذي دعمته الولايات المتحدة لكن علاوي لم يكن سياسيا حاذقا ولا ديمقراطيا حقيقيا، فانتهى به المطاف إلى أن يهجره أقرب حلفائه. نعم تمكن الإسلاميون من “الفوز” في الانتخابات، بوسائل مشروعة وأخرى غير مشروعة، وبقوا في السلطة على الرغم من فشلهم وفسادهم المفضوح والمنتشر. لكنهم بالتأكيد لا يمثلون غالبية الناس بل وليس لهم أي قاعدة شعبية حقيقية يسعون لخدمتها. لقد سعوا حتى الآن لخدمة قادتهم وعائلات قادتهم وهذا واضح لكل الناس.

س: كما أشرت في كتابك فإن المجتمع العراقي منقسم لذلك من الطبيعي أن ينعكس هذا الانقسام في البرلمان والحكومة. ما هي التحديات الرئيسية هنا؟

الانقسامات السياسية أمر طبيعي في الديمقراطية لكن الذي أشرت إليه في الكتاب هو الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية. الأحزاب الإسلامية، والشيعية تحديدا، عمقت الانقسام الطائفي بين الناس عن قصد واستغلته لصالحها. لقد استخدمَتْ خطابا طائفيا واختلقت القصص حول خطر السنة (أو خطر الشيعة عند الجانب الآخر) بهدف إخافة الناخبين ودفعهم لأن يصوتوا لهم. السياسيون الوطنيون والديمقراطيون الحقيقيون لا يقسِّمون شعبهم من أجل البقاء في السلطة وتحقيق مكاسب مالية. كان عليهم أن يستهدفوا تقوية التماسك الاجتماعي للشعب، لأن الانقسام غير السياسي يضعف البلد ولهذا ضعُف العراق بسبب الطائفية والتناحر. كل الأحزاب كانت تتحارب في ما بينها حول من الذي يحصل على الحصة الأكبر من الغنائم التي تأتي مع السلطة السياسية. هناك الآن انقسام عميق بين الإسلاميين أنفسهم أكثر مما هو موجود بينهم وبين الأحزاب الأخرى، على رغم أنه يفترض ألا توجد فروق أيديولوجية أساسية بين الأحزاب الإسلامية، من الناحية النظرية على الأقل. لكنهم، مع ذلك، تمكنوا من التوحد خلال الانتخابات بهدف الوصول إلى السلطة ثم اقتسام الغنائم بينهم لاحقا. وبالإضافة إلى الانقسامات الطائفية والعرقية فإن العراق لديه مشكلة في تماسك الدولة بسبب النزعة الإنفصالية عند الأكراد في الشمال. لا يمكن إقامة ديمقراطية حقيقية بوجود النزعات الإنفصالية لذلك يجب حل المشكلة الكردية حلا نهائيا قبل أن نتحدث عن ديمقراطية حقيقية في العراق وهذا تحدٍ خطيرٌ آخر.

هناك أيضا الاقتصاد الريعي الذي لا يساعد على خلق بيئة مواتية لنمو الديمقراطية الحقيقية لأنه يعطي قوة مالية هائلة لمن هم في السلطة ويجعل الناس معتمدين اعتمادا كبيرا على الدولة في معيشتهم. الانقسام السني الشيعي في العراق ليس عميقا لأن كلتا الطائفتين ترتبطان بروابط قومية وثقافية ووطنية وثيقة. الأحزاب الإسلامية حاولت تعميق الانقسام السني الشيعي وهذا عاد بالنفع على بعض الأشخاص من الجانبين لكن الانقسام لا يبدو قويا أو دائما وأنه سوف يختفي عندما تتسع شعبية الأحزاب العلمانية.

“فشل الديمقراطية في العراق: الدين والأيديولوجية والطائفية” عن دار راوتليج للدراسات الشرق أوسطية في الحكومة والديمقراطية – 236  صفحة

س: من الصعوبة إخراج الدين من السياسة، كما يبدو أنك تقترح في كتابك، هل هناك حل وسط بحيث يمكن التعايش مع العقائد الدينية في ديمقراطية ناشئة كالديمقراطية العراقية؟

في النظام الديمقراطي، الأحزاب السياسية لديها برنامج سياسي واقتصادي، وليس برنامجا دينيا. السياسة هي من أجل خدمة الناس في الدنيا، وليس في الآخرة. لذلك فإن الدين ليس له علاقة بالشؤون السياسية، لا في العراق ولا في أي بلد آخر. إذا ما أراد شخص أن يتبع مبادئه الدينية فإن هذا حق مشروع له ويجب أن يتعلق بحياته الشخصية فقط، ولا يتحول إلى طريقة لحكم البلد أو تحديد دور الشخص في الحياة العامة. يجب أن يتحدد دور الأفراد الذين يتولون السلطة بما يقدمونه  للناس من وظائف وخدمات. الناس أحرار في ممارسة عقائدهم ومذاهبهم في ظل النظام الديمقراطي، ولكن يجب عدم استغلال الدين للحصول على مكاسب سياسية لأن ذلك سوف يشجع ما سمَّيتُه في الكتاب (التدين السياسي)** وهو تدين كاذب وضار. في الانتخابات العراقية، معظم السياسيين، بمن فيهم العلمانيون، استخدموا الخطاب الديني. المتدينون الحقيقيون لا يستغلون المشاعر الدينية لمواطنيهم من أجل تحقيق مكاسب سياسية. الأديان والممارسات الدينية مصونة في ظل النظام الديمقراطي لأن القانون يحرسها، لذلك لن يحتاج الناس إلى سياسيين فاسدين كي يعلموهم دينهم. الناس يعرفون ماذا يفعلون ومن الذي يستشيرونه إن أرادوا مشورة دينية. إنهم يتبعون مراجعهم الدينيين ويسترشدون بآرائهم في أمور الدين، ولا يحتاجون إلى السياسيين الذين عليهم أن ينصرفوا إلى واجباتهم السياسية.  

س: هل تعتقد بان العراق قادر على أن يتطور إلى بلد ديمقراطي على النمط الغربي؟

نعم. اعتقد بان العراق يمكن أن يصبح بلدا ديمقراطيا حقيقيا لو تحققت بعض الشروط، وأول هذه الشروط هو أن على العراقيين أن يتمسكوا بالنظام الديمقراطي ويصروا عليه لأنهم يستحقونه بعد أن عاشوا فترة طويلة في ظل دكتاتورية قاسية. إلا أن هناك الآن خيبة أمل كبيرة عند العراقيين فيما يتعلق بالديمقراطية، فإذا ما استمر هذا التوجه السلبي عندهم، فإن التزامهم بالنظام الديمقراطي سوف يضعُف، كما حصل في مصر، ومتى ما حصل هذا الأمر فإن القوى غير الديمقراطية سوف تستغله وتحاول الاستيلاء على السلطة. ثانيا، على العالم الديمقراطي، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديدا، أن يساعد العراق لتحسين وتعزيز الديمقراطية فيه، فالعراق بحاجة لمثل هذه المساعدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أجل أن يواصل المسيرة ويطور نظامه الديمقراطي. الديمقراطية في العراق الآن تعيش في بيئة معادية وقد لا تستطيع أن تستمر دون الدعم السياسي والاقتصادي من القوى الغربية.

 العراق بلد متوسط الحجم وعدد سكانه يقترب من الأربعين مليونا وعلى السياسيين أن يتنافقسوا من أجل تحويله إلى دولة ديمقراطية عصرية قابلة للحياة تتمتع باقتصاد حديث. مثل هذه الدولة سوف تلعب دورا إيجابيا في المنطقة، سياسيا واقتصاديا. العراق الديمقراطي سيكون جزءا من العالم الديمقراطي الغربي، كما هو حال اليابان وكوريا الجنوبية في جنوب شرق آسيا. الديمقراطية في العراق فشلت حتى الآن لكن هذا الفشل ليس دائميا. بإمكانها أن تنجح إذا ما قامت الأسرة الدولية بمساعدة العراق على البقاء مستقلا وبعيدا عن التدخلات الدولية. وإذا ما فشلت الديمقراطية في العراق، فإن ذلك لن يكون في مصلحة الغرب ولا الشرق الأوسط.

س: أنت تلوم الأمريكيين على ضعف التزامهم بالديمقراطية، ولكن ألا تعتقد بأن هذا الموقف يفتقر إلى الإنصاف؟ فالجيش الأمريكي أسقط الدكتاتورية وأسس لدولة ديمقراطية. ماذا كان على الولايات المتحدة أن تفعل أكثر من هذا؟

نعم الولايات المتحدة أسقطت الدكتاتورية ولكن لم يكن لديها أي التزام بالديمقراطية. لقد ارادت ديمقراطية تخدم أهدافها القصيرة الأمد. سارعت إلى إجراء الانتخابات في العراق عندما لم يكن هناك مؤسسات ديمقراطية. الديمقراطية تحتاج إلى مجتمع مدني ومجتمع اقتصادي ومجتمع سياسي وجهاز بيروقراطي متماسك ونظام قضائي فاعل، ولم يكن في العراق أي من هذه المقومات في يناير/كنون الثاني من عام 2005 عندما أجريت الانتخابات الأولى. العراق عانى ومازال من حركة انفصالية في الشمال ولم تسعَ الولايات المتحدة لمساعدته على حل هذه المشكلة على الرغم من أن (الإنفصاليين) الأكراد كانوا ومازالوا حلفاء للولايات المتحدة. كما عانى العراق من تدهور الخدمات وفقر مدقع وانعدام النظام والقانون، ومن تمرد مسلح شرس (المقاومة)، وكل ذلك بسبب السياسيات الأمريكية الخاطئة مثل حل الجيش والشرطة وإصدار قانون اجتثاث البعث وإعلان العراق دولة محتلة (قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483الذي قدمته الولايات المتحدة) وكانت هذه القرارات فاعلة في خلق الفوضى التي رأيناها بعد عام 2003.

لقد ساعدت هذ الإجراءات على تقوية التمرد العنيف والجماعات المسلحة والمليشيات بدلا من أن تعزز القوى الديمقراطية. وبالإضافة إلى البطالة المستشرية في العراق، فقد جعلت الولايات المتحدة من مليون ضابط وجندي عراقي مسلح ومدرب، عاطلين عن العمل، ثم أضافت إليهم مليون عضو في حزب البعث عبر قانون اجتثاث البعث (الذي منع توظيف القياديين البعثين). وبدلا من أن تجد حلولا لمشاكل العراق السائدة، خلقت الولايات المتحدة مزيدا من المشاكل ورفضت أن تستثمر أموالا في استقرار العراق. لقد رفض بول بريمر أن يعيد المفصولين السياسيين إلى وظائفهم السابقة بحجة أنه يتبع إجراءات تقشفية وأنه يريد أن ينقل العراق إلى اقتصاد السوق.

وفي النهاية اضطرت الولايات المتحدة لأن تدفع ما يعادل نصف ترليون دولار لمحاربة التمرد المسلح الذي كان يمكن تجنبه بسهولة لو أن القوى الطائفية ابتعدت عن الواجهة. إن القوى الطائفية هي التي أججت التمرد المسلح بافعالها وأقوالها. وبدلا من التعاون مع مجلس الحكم الذي عينته الولايات المتحدة، سعى بول بريمر باستمرار لإضعافه وجعله يبدو هزيلا أمام العراقيين. لقد أساءت الولايات المتحدة التعامل مع القوى السياسية العراقية ودفعتها للتحالف مع إيران وتركيا ودول الخليج، او حمل السلاح ضدها. حتى أن حلفاء الولايات المتحدة كأياد علاوي وأحمد الجلبي وقفوا ضدها. سمحت الولايات المتحدة للمليشيات والجماعات الدينية (المسلحة) بالعمل بينما كان بإمكانها أن تمنعها، فلا يمكن إقامة الديمقراطية تحت حراب الأحزاب الدينية والانفصالية المسلحة. كان هذا واضحا للجميع لذلك أنا ألوم الولايات المتحدة على معظم المشاكل التي حلت بالعراق (إذ كان بإمكانها أن تمنع حدوثها).

س: بصراحة تامة، هل تعتقد بأن العراق جاهز للديمقراطية كما كنت تدعي في مقالاتك وخطاباتك قبل سقوط صدام حسين؟ وهل هو جاهز الآن؟

“الديمقراطية ليست النسق الطبيعي لبني البشر، بل هو حدث نادر الحدوث” حسب القول البليغ للمفكر البريطاني جون دون (John Dunn). لم تُؤسَّس الديمقراطية بين ليلة وضحاها في أي بلد في العالم. إنها صيرورة تحتاج إلى جهود كبيرة، وكما ذكرت آنفا، فإن هناك شروطا مسبقة يجب أن تتحقق من أجل أن تنجح الديمقراطية، وكل تلك المقومات لم تكن متوفرة في العراق عام 2003 لكن كان من الممكن تحقيق تلك الشروط أو المقومات خلال خمس سنوات وهذا كان بإمكان الولايات المتحدة أن تفعله. الديمقراطية تحتاج إلى رعاية، وما كانت لتنجح في أسبانيا والبرتغال واليونان ودول أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية لو لم تقدم لها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعما غير محدود.

نعم أنا كنت متحمسا للديمقراطية سابقا، وما أزال متحمسا حاليا، لأنني اعتقد بأن تحقيق الديمقراطية ممكن في العراق تحديدا، ولا ننسى أن المفكر السياسي الأمريكي، صاموئيل هنتينغدون، قد أدرج عام 1990 كلا من العراق وإيران ضمن البلدان التي تحققت فيها المقومات الاقتصادية اللازمة لقيام الديمقراطية، وهذا يؤهلهما لأن يتبنيا النظام الديمقراطي.  

اعترف بأنني لم أتوقع حصول الكثير من الأحداث لأنني عشت في بريطانيا 23 عاما قبل سقوط النظام عام 2003. لم أكن أعرف تفاصيل التغيرات التي طرأت على المجتمع العراقي (خلال فترة الثمانينات والتسعينيات ومطلع الألفية الثالثة). العقوبات الدولية القاسية التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق لمدة 12 عاما اركعت البلد على قدميه وعطلت كل مؤسساته. ولسوء الحظ، لم يكن بمقدور المنفيين في الخارج من أمثالي أن يقدروا بدقة كل هذه التداعيات. مع ذلك مازلت أعتقد بأنه كان يمكن أن تُؤسَّس الديمقراطية بالتدريج خلال فترة أمدها عشر سنوات لو كانت الولايات المتحدة ملتزمة بها حقا.

*حميد الكفائي كاتب وباحث عراقي عمل صحفيا ومديرا في مؤسسات عراقية ودولية عديدة، بينها البي بي سي والأمم المتحدة وأم بي أن، وأستاذا في الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية في جامعتي أكسيتر وويستمنستر البريطانيتين ويعمل حاليا باحثا في مؤسسة دولية مقرها لندن
**(التدين السياسي): مصطلح استخدمه الدكتور عقيل عباس في مقابلة خاصة لكتاب (فشل الديمقراطية في العراق)

https://foreignpolicyconcepts.com/a-discussion-with-hamid-alkifaey-author-of-failure-of-democracy-in-iraq/