التخلف ضارب أطنابه في جهات العراق الأربع

الحياة 14/5/2019 

لم تبتعد النائب هيفاء الأمين كثيراً عن الحقيقة، عندما وصفت جنوب العراق بأنه “متخلف” عن لبنان وكردستان. فهذه حقيقة، وكل من يجادل فيها مكابر. والتخلف هنا، لا يعني التخلف الذهني الذي يحط من قيمة الانسان، بل التخلف التنموي بأشكاله التنظيمية والعمرانية والخدمية، وحتى الثقافية. لكن الغريب، هو الضجة التي أثارتها جهات سياسية – دينية حول تصريح الأمين، معتبرة إياه “إساءة لأهل الجنوب”. وكأن هيفاء ليست من الجنوب ولم تخدمْه وتفُز بأصوات أهله. والأغرب، هو أن تضطر للاعتذار قائلة إنها أساءت التعبير! علما أنها أصرت على رأيها لثلاثة أيام، لترضخ في اليوم الرابع وتصدر بيانا مكتوباً وأشرطة مصوّرة عدة، تقدم فيها اعتذارها لأهل الجنوب عن وصفه بـ “التخلف”.

 
يكاد العراقيون أن يجمعوا على أن التخلف التنموي “ضارب أطنابه” في العراق، بدرجات متفاوتة. ويمكننا أن نعدد أوجه هذا التخلف في حياة الناس عبر انتشار الفساد وتدهور الخدمات وبطء التطور أو توقفه في معظم جوانب الحياة، يضاف إلى ذلك التخلف الثقافي وانتشار القيم العشائرية البالية والخرافات.
 
ومنذ فرضت العقوبات الدولية على العراق في عام 1990 وحتى الآن، انتشر الإيمان بالخرافات وكثرت المراقد الوهمية (لأبناء وبنات الحسن والكاظم)، ما دفع المرجع الديني محمد اليعقوبي إلى التحذير منها، وانتشر الاستبداد الديني، بحيث أصبح المرء يُقتل أحياناً على أيدي جماعات مسلحة أو يتعرض للتهديد بالتصفية لمجرد أن هناك من اعتقد بأنه خالفه معتقداته الدينية، بل استُهدف حتى الحلاقون في فترة من الفترات، لأنهم يحلقون اللحى وهذا “مخالف للدين” في نظر المتشددين، بينما أقيمت محاكم “شرعية” خارج نطاق الدولة، وبدأت تستدعي الناس وتحاكم وتسجن وتغرِّم. ألا يعد كل هذا تخلفاً وتدهوراً ثقافياً مريعاً؟
 
وإذا ما تجاوزنا الماضي وعدنا فقط إلى الأعوام القليلة المنصرمة، وأحصينا عدد اللواتي قتلن من النساء، فضلاً عن الشباب، لأسباب يعتقد بأنها دينية، وسكوت الحكومة عن عمليات القتل هذه، أو عدم اكتراثها لها، فسوف نصاب بالفزع من الوضع الذي آلت إليه الأوضاع.
 
وخلال العام الماضي وحده، قُتل العديد من الناشطين والمثقفين والصحافيين بحجج دينية، وبين الأسماء البارزة كان الروائي علاء مشذوب في كربلاء، والفنانة تارا فارس في بغداد، والناشطة المدنية سعاد العلي في البصرة، ولم تكشف الشرطة عن هوية القتلة حتى الآن.
 
أما النزاعات العشائرية في الجنوب، فأصبحت عبئا على المجتمع والدولة، لأنها دخلت في كل شيء. أصبح الأطباء يخشون أن يعالجوا مرضاهم، فإن لم ينجح العلاج، سيطالَبون بـ”دية” عند موت المريض، باعتبارهم المسؤولين عنه، كما حصل لطبيبة في السماوة، اضطرت لأن تدفع مبلغ 45 مليون دينار (40 ألف دولار) لإحدى العشائر، كفصل عشائري بسبب موت أحد مرضاها. وما أكثر الأطباء الذين هجروا مهنة الطب أو غادروا العراق لهذه الأسباب.
كنت ذات يوم انتظر دوري بين عشرات المواطنين في دائرة الجوازات في بغداد لتجديد جواز سفري. طال انتظارنا وبدأ المنتظرون يتذمرون، فبدأنا نقارن مع الدول الأخرى، وحدثتهم عن إصدار الجوازات في بريطانيا وكيف أنه ينجز بالبريد خلال أسبوع، ولا يأخذ من مقدم الطلب سوى بضع دقائق لملء الاستمارة، وكذلك بالإمكان الحصول على جواز السفر في اليوم نفسه عند مراجعة دائرة الجوازات. كان بين المنتظرين شاب عشريني ينصت إليّ بإمعان. وعندما انتهيت، قام وجلس إلى جانبي وسألني: “إن كانت لديك فرصة للعيش في بريطانيا فماذا تفعل هنا”؟ قلت له إن هذا بلدي ولا يسعدني أن أعيش في بلد آخر، فسخر من ردي وقال: “أنا طبيب أعمل في مستشفى ديالى، وجاء مسلحون قبل أيام وضربوني وأهانوني لأنهم وجدوا صورة ممزقة لأحد القادة السياسيين – الدينيين في المستشفى، واتهموني بأنني وراء تمزيقها!”. وأضاف: “جئت اليوم لأحصل على جواز سفر وسوف أغادر العراق إلى أي بلد في العالم يعيد إليّ كرامتي، فإن لم أفلح فسوف أذهب إلى كردستان، فهناك يحترمون الطبيب ويدفعون له راتباً مجزياً مع سكن لائق”. أليس تخلفا أن يُهان طبيب ويُضرب لأن صورة سياسي وجدت ممزقة؟
 
وبسبب المضايقات وتدني الرواتب، غادر مئات الأطباء العراق إلى بلدان أخرى. وأسهم ذلك في تخلف الخدمات الصحية. التخلف في الخدمات، خصوصا في الجنوب، وصل إلى حد أن الناس لم تعد تحصل على الماء الصالح للاغتسال، ناهيك عن الشرب، وأن القاذورات والمستنقعات تنتشر في أماكن كثيرة، بينما الروائح الكريهة المنبعثة من القنوات المائية تزكم الأنوف في البصرة، العاصمة الاقتصادية والثقافية المقترحة للعراق.
 
عندما يهاجِم الغوغاء موظفي شركة نفط أجنبية ويضربونهم بحجة أنهم أنزلوا “راية الإمام الحسين” وتمتنع الحكومة عن معاقبتهم، فهذا تخلف وإجرام في حق الشعب. وعندما يهاجم مسلحون ملثمون “اتحاد الأدباء” ويكسرون الطاولات والكراسي، ويضربون الأدباء من دون سبب وتسكت الحكومة ولا تحقق في الأمر، فهذا تخلف وتواطؤ مع المجرمين. وعندما تهاجم الجماعات المسلحة النوادي وتعتدي على روادها وتتصرف الحكومة وكأن الأمر لا يعنيها، فهذا تخلف وانحطاط أخلاقي وانعدام للمسؤولية. وعندما تتدفق المياه الثقيلة في الأنهار المارة في المدن وتلوثها ولا تعترض وزارة الصحة، فهذا تخلف شديد واعتداء شنيع على الفقراء الذين يستخدمون هذه المياه. وعندما تتعطل حركة البلد وتغلق الشوارع لأيام عدة من أجل أن يستخدمها المشاة الذاهبون إلى المراقد المقدسة، مع وجود أرصفة وطرق بديلة، فهذا تخلف وتعمد في إيذاء الناس وقهرهم وقطع أرزاقهم. وعندما يضطر المواطن والمستثمر وحتى فاعل الخير إلى دفع الرشاوى من أجل إنجاز أعماله، فهذا تخلف ونكوص وتدهور أخلاقي وقيمي.
 
مظاهر التخلف في العراق كثيرة. وما قالته هيفاء الأمين صحيح، وكان عليها أن تتمسك برأيها وألا ترضخ للتهديد. هيفاء من أكثر النساء نشاطاً في العراق. تعمل ليلاً نهاراً من أجل المرأة والطفل والفقراء، وهي المرأة الوحيدة في الجنوب التي حصلت على أكثر من 8500 صوت في عام 2014 وعدد يفوق هذا في عام 2018، بينما فازت أخريات بأقل من عُشر هذا العدد ودخلن البرلمان بفضل الـ “كوتا” النسائية.
 
الحملة المنظمة التي تشنها قوى ظلامية على هيفاء الأمين سببها نشاطها الدؤوب وتأثيرها الواسع. كان على كتلة “سائرون” أن تقف معها، وألا تضغط عليها لتعتذر. وكان على “الحزب الشيوعي” أن يقف بقوة وحزم معها، لا أن يصدر بيانات اعتذارية توفيقية تنتقدها ضمنا. “الحزب الشيوعي” حزب تاريخي ومؤثر ولديه آلاف الناشطين والمثقفين، وعليه أن يجند قواه ليقف بصلابة أمام هجمات الظلاميين والمتصيدين في الماء العكر، الذين يحاولون تشويه مواقفه، فإن كان عاجزاً عن المواجهة، عليه أن يعيد النظر في جدوى استمرار نشاطه السياسي.
 
إن كان وصف “تخلف” استفز بعض العراقيين، فعليهم أن يعملوا بجد ومثابرة لينتشلوا العراق منه بدلاً من إنكاره. أما إن كانوا يحاولون استغلال الكلمة للإيقاع بهيفاء الأمين والحد من نشاطها وشعبيتها، فليعلموا بأن الناس ليسوا مغفلين بحيث تنطلي عليهم هذه الألاعيب، خصوصاً وأن المعترضين والمنددين هم من أكثر الناس فساداً وجهلاً.
حميد الكفائي