التقارب السعودي-العراقي: عودة الأمور إلى طبيعتها

الحياة: 30 نيسان 2019

من الطبيعي جدا أن تقوم علاقات وطيدة بين المملكة العربية السعودية والعراق، ولا داعي لشرح الأسباب فهي واضحة، فبالإضافة إلى الجيرة والعلاقات القومية والثقافية بين البلدين، هناك المصالح المشتركة وحاجة البلدين لبعضهما البعض اقتصاديا وسياسيا وأمنيا. الجفاء الذي شهدته العلاقات العراقية-السعودية ما كان يجب أن يحصل لأنه ضرر كلي لهما، وقد تضرر البلدان منه فعلا، ولكن الأسباب التي أدت إليه مفهومة. هل التقارب الحالي قابل للإستمرار، أم أنه ضرورة أملتها ظروف دولية آنية سرعان ما تزول ليعود الفتور في العلاقات مرة أخرى؟

ثمة جدية غير مسبوقة من الجانبين للتأسيس لعلاقات وطيدة قابلة للتطور بمرور الزمن، وهناك حاجة ماسة لكلا البلدين لتطوير العلاقات الاقتصادية بينهما والتي ستعود بالنفع على الشعبين، ولكن هناك معوقات حقيقية يجب ألا يغفلها الجانبان لأن إغفالها سيعصف، إن عاجلا أم آجلا، بأي تطور يمكن تحقيقه على الأمد القريب. هناك من يسعى جاهدا لتعميق الخلاف المذهبي في العراق بهدف عزل شيعة العراق عن محيطهم العربي، فكلما اتسعت الهوة الطائفية، اصبح الشيعة غرباء في منطقتهم لا يجدون من يثقون به أو يتعاملون معه فيضطرون للإتجاه شرقا إلى “المنقذ والحامي من الأخطار المحدقة بهم”. هناك جماعات مدفوعة دفعا لتعميق الخلاف الطائفي وجر الشيعة إلى عداوات ومواجهات مع جيرانهم العرب، بينما هم أحوج ما يكونون إلى تجنبها وإقامة علاقات ودية قائمة على التفاهم وتعميق القواسم الثقافية والمصالح الاقتصادية.

وبغض النظر عن العلاقات الخارجية، يجب ألا ننسى أن تعميق الخلافات الطائفية يزعزع استقرار العراق داخليا، ويتضرر منه الشيعة قبل غيرهم كما رأينا في حقبة الخمسة عشر عاما الماضية.

وفي الجانب الآخر هناك من شيطن الشيعة وكفرهم وتعامل معهم على أنهم مجموعة صوانية معادية للسنة، بينما الحقيقة هي أن هناك مدارس شيعية متعددة، منها المعتدل والقريب جدا من مذاهب السنة، وهؤلاء هم الغالبية، ومنها ما هو بعيد وهامشي. المتطرفون في الجانبين سيحاولون تخريب العلاقة العراقية-السعودية، لكن حكومتي البلدين مدعوتان للضرب بيد من حديد على كل من يسعى لتعريض أمن واقتصاد البلدين وتماسك شعبيهما إلى الخطر. يجب ألا يكون من يرتدي الزي الديني فوق القانون، إن كان يسعى للتأجيج وإثارة الكراهية والفتن. من يتصدى للوعظ والإرشاد الديني عليه أن يتحلى بأقصى درجات التسامح والقبول بالرأي الآخر، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة كما تدعو الآية الكريمة، وليس عبر التنابز واستفزاز الآخر وإطلاق العنان للسباب والشتائم التي لا يقرها أي دين أو عرف أو أخلاق، ناهيك عما تجلبه من أحقاد وبغضاء وزعزعة للأمن والاستقرار والاقتصاد. يجب أن يُلجم كل من يدعو إلى التفرقة ويحض على العداوة والكراهية بين الناس وكل من يسيء إلى الرموز الدينية للآخر، فهذا خط أحمر يجب ألا يتجاوزه أحد.

يجب أن يُترك التأريخ للمؤرخين فقط، وألا يكون حديثا للتسلية والاستئناس بين الناس. الشؤون الدينية أمور فلسفية عميقة لا يفهمها كليا إلا الدارسون والمتخصصون فيها، لذلك يجب أن تكون الثقافة العامة مبنية على المبدأ الذي سنّه الحديث الشريف (من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وما قاله الإمام علي في وصيته لإبنه الحسن (لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم). يمكن وزارات الثقافة والإرشاد والشؤون الدينية أن تلعب دورا كبيرا في بث قيم التسامح وتقريب آراء الناس، ويمكن أن تُعدَّل القوانين الحالية كي تتعامل بحزم مع مثيري الفتنة الذين لا يدركون أنهم يلعبون بالنار التي تحرق الجميع.

لقد ملّت شعوبُنا من الاحتراب والتناحر وعليها أن تتعلم العيش بسلام وتعاون وألفة وتسامح من أجل خدمة الأجيال المقبلة وبناء دول قوية منتجة منسجمة مع بعضها تتعاون على البر والتقوى وتتصدى للإثم والعدوان، بدلا من الانشغال في خلافات تأريخية لن تنتهي ولا يمكن الاتفاق عليها. لا يمكن تغيير التأريخ أو مسح القصص التي كتبها الاولون، الصحيحة منها والمختلقة. لقد عصفت خلافات عميقة بشعوب أخرى لكنها أدركت بمرور الزمن أن لا حل عمليا لمثل هذه الخلافات في الرأي والعقيدة والثقافة سوى القبول بالآخر ومحاولة فهمه والتعايش معه، وهذه مسألة ليست صعبة حينما يدرك الجميع بأن الأديان والمذاهب جميعا، إنما سلكت طرقا مختلفة لتفسير النصوص الدينية لأنها آمنت بأنها صحيحة ونافعة لأتباعها، ولم يكن في حسبان مؤسسيها أن يؤدي الاختلاف في الرأي إلى عداوات وقطيعة.

بإمكان العراق والسعودية أن يتكاملا اقتصاديا ويتعاونا سياسيا وثقافيا ويتقاربا اجتماعيا، فمجالات التعاون كثيرة ووشائج القربى عميقة وممتدة عبر مئات بل آلاف السنين، وتشابه الديموغرافية والجغرافية كفيل ببناء روابط وثيقة دائمة ومتطورة تخدم مصالح البلدين والشعبين، مما سيعود على المنطقة والعالم بالخير والأمن والسلام. السعودية متقدمة في العديد من المجالات خصوصا الصناعية منها، والعراق لديه الكثير من الإمكانيات التي يمكن أن تنتفع منها السعودية خصوصا الطاقات البشرية ومجالات الاستثمار الهائلة في مجال الخدمات التي يمكن المال السعودي أن يملأ الفراغ الهائل فيها.

أمام رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، فرصة تأريخية نادرة لتوطيد هذه العلاقات وإزالة معوقات تطورها، فالرجل متوازن طائفيا ومؤثر في الأوساط الدينية الشيعية وبإمكانه أن يحث المراكز والحوزات والجماعات الدينية المختلفة على التوجه لخدمة مصالح العراق عبر الترويج لخطاب متسامح مؤمن بأن الاختلاف بين الناس مسألة طبيعية، وأن اختلاف الأنظمة السياسية لا يمنع الدول من التعاون والتحالف فيما بينها، وأن الوفاق والوئام والتعاون ممكنة وتخدم مصالح كل الأطراف.

كما يمكن عبد المهدي أن يكون حاكما قويا ويشْرَع على وجه السرعة في تفعيل القوانين التي تخدم مصلحة العراق وتمنع كل ما يثير الفرقة. لا منصب دائما لأحد، لكن الذي يدوم هو العلاقات الوطيدة النافعة التي تؤسس لعراق قوي ومتصالح مع نفسه ومحيطه العربي ومتفاعل مع العالم. بإمكان السيد عبد المهدي أن يجمع حوله دعاة الوحدة والمصلحة والتسامح، وما أكثرهم، ويحشد القوى باتجاه السلام والوئام والتعاون الاقتصادي من أجل القضاء على الإرهاب وتوفير الخدمات والوظائف والأمن والاستقرار في بلد عانى ما عاناه خلال نصف قرن من الحروب والدكتاتورية والفوضى. التعاون العراقي السعودي لن يكون على حساب الدول الأخرى بل هو المسار الطبيعي والمطلوب لتطور البلدين والمنطقة برمتها وقد رأينا الأضرار الفادحة الناتجة عن القطيعة بينهما خلال العقود الثلاثة المنصرمة.

هل تأخر التقارب بين البلدين؟ نعم تأخر كثيرا، لكن هناك ظروفا استثنائية حالت دون وقوعه. أما وقد زالت هذه الظروف الآن، أو أُزيلت، فإن عصرا جديدا قد بدأ، يتمنى الجميع أن يستمر ويتطور لأن المنطقة بحاجة ماسة إلى الاستقرار والانصراف كليا للبناء والإعمار. أما الذين يصرون على البغضاء وإثارة الضغائن والفتن فيجب ألا تتردد حكومتا البلدين في منعهم بقوة القانون من إرباك حياة الغالبية كما فعلوا مرات عديدة سابقا. ظاهرة التطرف الديني والطائفي يجب أن تنتهي، وهذا ممكن عبر اتخاذ خطوات جريئة مدروسة.   

 حميد الكفائي   

http://www.alhayat.com/article/4628646/%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%88%D8%B1-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%AA%D9%87%D8%A7