إيلاف – الأربعاء 11 فبراير
نتائج انتخابات المحافظات في العراق سجلت هزيمة قاسية وفي بعض المحافظات كانت ساحقة، إن لم تكن للأحزاب الدينية، فهي هزيمة لأطروحات هذه الأحزاب. قلنا، بتعمد (هزيمة ساحقة) ولم نقل تراجعا، استنادا للمعايير التالية أولا) المساحة التي احتلتها هذه الأحزاب خلال السنوات الخمس الماضيات، على صعيد الشارع، وفي أجهزة الدولة المفصلية، وفي وسائل الإعلام كانت مساحة واسعة جدا، إلى حد بدت خلاله هذه الأحزاب وكأنها العنقود الواحد والوحيد في شجرة الحياة السياسية العراقية، أو أنها (الوكيل الحصري) لكل نضالات العراقيين منذ بداية تشكل الدولة العراقية الحديثة، والممثل الشرعي الوحيد، الذي لا ينافسه أحد، للشعب العراقي.ثانيا) طوال الفترة التي أعقبت سقوط النظام السابق، روجت بعض هذه الأحزاب السنية منها والشيعية، تلميحا مرة وتصريحا مرة أخرى، بأنها الممثل الوحيد للطائفة التي تنتمي إليها، وأن العراقي يتصرف، أولا وأخيرا وبالضرورة، وفقا لولائه الطائفي، فهو (كائن سني أو شيعي)، وأن الشيعة هم كتلة واحدة وموحدة لا فوارق بين أبنائها، والسنة كذلك.ثالثا) امتلاك هذه الأحزاب لإمكانيات مالية هائلة وظفتها لاستمالة الرأي العام، بالإضافة إلى استغلال سيطرتها على أجهزة الدولة لتوظيف المزيد من المؤيدين المدافعين عن سياساتها، وهذه كانت، باختصار، عمليات رشا، تمت وفق شعار: امنحني ولائك، أمنحك وظيفة.رابعا) استفادت هذه الأحزاب من المنابر الدينية، والمناسبات الدينية لتعريف الناس بسياستها، والترويج لنفسها، خصوصا أن بعض قادة هذه الأحزاب يجمعون بين مناصبهم الرسمية ومواقعهم الرسمية من جهة، وبين مواقعهم كرجال دين وخطباء منابر.خامسا) وظفت بعض هذه الأحزاب المرجعية الدينية لصالحها في الانتخابات السابقة، وداومت على استغلال اسم المرجعية، بهذا الأسلوب أو ذاك، حتى خلال الانتخابات الأخيرة، رغم أن المرجعية أكدت مرارا وتكرارا أنها تقف على مسافة واحدة إزاء جميع الكيانات السياسية. واستنادا على ما ذكرنا، فأن النقطة الواحدة التي خسرتها هذه الأحزاب تعادل أكثر من عشر نقاط. فما بالك لو أن حزبا من هذه الأحزاب لم يحصل إلا على 03 في المائة من أصوات محافظة، ظل يحكمها أكثر من ثلاث سنوات ؟ أليس هذه هزيمة ساحقة ؟ وكيف لم تهزم الأحزاب الدينية هزيمة ساحقة، عندما لا يحصل بعضها، وهي من الأحزاب الكبرى، إلا على أقل من ستة في المائة من مجموع الذين أدلوا بأصواتهم في العاصمة العراقية التي كانت تسيطر عليها سيطرة تامة ؟ وكيف تكون الهزيمة ساحقة عندما لا يحصل حزب من هذه الأحزاب (التيار الصدري، مثلا) إلا تسعة في المائة من الأصوات في بغداد ؟ ألم يروج الصدريون أن مدينة الثورة بأكملها (صدرية)، وأن مدينة الشعلة مثلها، فلو أن ربع سكان هاتين (العاصمتين) صوتوا لصالح التيار الصدري، لجاء ترتيبه في المقدمة. أليست هذه هزيمة ساحقة ؟  ثم، أليس هزيمة ساحقة للأحزاب الدينية، عندما يقاطعها نصف الناخبين، تقريبا ؟ عزوف هولاء الناخبين ليس سوى رفض للعملية السياسية التي اقترن وجودها بحكم الأحزاب الإسلامية.  فالمعروف في كل دول العالم، والعراق ليس استثناء، أن الذين يفضلون الجلوس في بيوتهم وعدم الذهاب إلى صناديق الانتخابات هم من غير المنتمين للأحزاب المشاركة، وليسوا من المتحمسين لسياساتها. ولو كانوا كذلك لسارعوا منذ الساعات الأولى للإدلاء بأصواتهم. صحيح، أن هولاء المتغيبين لا يعترضون فقط على سياسات الأحزاب الدينية، وإنما على جميع الطبقة السياسية الناشطة، لكن هناك أعداد كبيرة ضمن هولاء المقاطعين، من يفترض أن يصوتوا للأحزاب الدينية. لكن، هل أن هذه الأحزاب على استعداد للتعلم من أخطائها واستخلاص العبر من تلك النتائج، أم أنها ما تزال سائرة في طريق المكابرة ؟ حالما أعلنت النتائج الرسمية لانتخابات المحافظات، حاول قياديون في بعض الأحزاب الدينية الحاكمة التقليل من شأن الخسارة التي منيت بها أحزاب الإسلام السياسي في تلك الانتخابات. وجهد بعض آخر منهم، خصوصا من قادة الأحزاب التي منيت بخسارة فادحة، إلى إلقاء اللوم على عوامل خارجية. وجهد قسم آخر إلى قراءة النتائج الإجمالية، قراءة متفائلة، لكنها بعيدة عن الواقع، أو على طريقة ذاك الفقير الذي سألوه عن ثروته، فأجاب: “أنا والثري الفلاني نملك مليار ومائة دولار، المليار له، والمتبقي ثروتي أنا.”بعض من هولاء القادة قالوا أن (فوز المالكي تكريس لحكم الأحزاب الدينية.) إن استنتاج كهذا ليس سوى أمنية، أو حلم لا بد أنه كان يراودهم في منامهم طوال الفترة التي سبقت انتخابات المحافظات. ورغم أن الشمس المحرقة التي بزغت في الحادي والثلاثين من الشهر الماضي أيقظت كثيرا من النائمين، إلا أن بعض قادة أحزاب الإسلام السياسي في العراق يرفضون أن يستيقظوا، حتى لا تفسد عليهم اليقظة حلمهم الأثير.بالطبع، أن من حق  هولاء القادة أن يحلموا ويتمنوا كما يشاءون، وأن  يكرروا ليلا ونهارا  أن نتائج انتخابات المحافظات كانت انتصارا للأحزاب الدينية، لكن العراقيين والعالم كله تأكدوا الآن، على سبيل المثال، أن الذي جاء في صدارة الفائزين في محافظة كربلاء، وهي، كما يفترض، حصن الإسلاميين الحصين وقلعتهم التي لا يملك مفاتيح أبوابها أحد غيرهم، هو، السيد يوسف الحبوبي، الذي لا ينتمي لأي حزب ديني. فاجعة كربلاء الانتخابية قبل أن تتوارد أخبار فوز السيد الحبوبي، أذاعت وسائل إعلام معلومات مفادها أن الحبوبي (بعثي سابق). لكن، حتى لو افترضنا صحة هذه المعلومة فأن فوز الرجل، الذي كان مجهولا لأغلبية العراقيين خارج محافظة كربلاء، يظل فضيحة مجلجلة ومضاعفة لأحزاب الإسلام السياسي. فعندما يثق العراقيون هذه الأيام برجل (تكنوقراط) ويفضلونه رغم علمانيته على جميع الأحزاب الدينية، فان ذلك يعني، ببساطة شديدة، أن ما يشغل بال الناس هو، ضمان مصالحهم اليومية ومستقبل أطفالهم، وأنهم ليسوا بحاجة لمن يعلمهم واجباتهم الدينية، فهم يعرفونها تماما، ولكنهم بحاجة لمن يحسن لهم شؤونهم الدنيوية. فوز الحبوبي يعني، أيضا، أن الناس ضاقوا ذرعا بالشعارات الطنانة، واللغة الخشبية، والنبش المذهبي في صفحات التاريخ التليد تحقيقا لأهداف سياسية آنية، مثلما يعني استياء الناس الشديد من الأداء الأخلاقي والمالي والخدمي لهذه الأحزاب الدينية التي تسيدت الساحة السياسية خلال السنوات الخمس الماضيات. هذا، إذا كان الكربلائيون انتخبوا الحبوبي لمهنيته ولنزاهته، كنائب سابق للمحافظة. إما إذا انتخبوه لإنتماءه السياسي (البعثي)  فأن ذلك يعني أن فاجعة حقيقية كبرى ألمت بالأحزاب الدينية. وكما يقول بعض الخبثاء، فانه من الآن وحتى حلول موعد الزيارة (الأربعينية) القادمة، فأن على الأحزاب الدينية في كربلاء أن تشغل نفسها بإقامة مجالس تعزية خاصة بها بمناسبة هذا الحدث الجلل، أي خسارتها، وتترك (زوار الحسين) وشأنهم، يؤدون طقوسهم الدينية بعفوية وبصدق، كما دأبوا على تأديتها منذ عشرات السنين، بعيدا عن أي وصاية ، وأي استثمار سياسي لهذه المناسبات الدينية.والهزيمة التي حلت بالأحزاب الدينية في كربلاء تكررت في محافظة نينوى، التي ظل الإسلاميون يعتبرونها في (الجيب). ففي هذه المحافظة حصدت قائمة (الحدباء) العلمانية أكثر من 48 في المائة، وبعدها قائمة (نينوى المتآخية) العلمانية، أيضا، بينما لم يحصل الحزب الإسلامي، وهو أقوى الأحزاب الدينية السنية، إلا على أقل من 7 في المائة.  الغذاء والدواء مقابل الولاءوفي محافظة البصرة الغنية بالنفط، لم يحصل حزب (الفضيلة) الإسلامي إلا 03 (ثلاثة) في المائة. وهذه فاجعة كبرى أخرى تلم بالأحزاب الدينية، تماما على غرار (فاجعة كربلاء الانتخابية). فالمعروف أن حزب الفضيلة الإسلامي يحكم مدينة البصرة منذ الانتخابات الماضية قبل أكثر من ثلاث سنوات. وهذا الحزب، شأنه شأن بقية الأحزاب الأخرى، لم يصل إلى سلطة المحافظة بقوة السلاح، إنما عن طريق صناديق الانتخابات. لكن، أي انتخابات ؟ إنها انتخابات عام 2005 ، أي انتخابات صيد الطرائد وهي متعبة، أو صيد الأسماك بعد تفجير المياه التي تسبح فيها بمادة الديناميت القاتل. وها هم الناس، الذين صادتهم الأحزاب الدينية كما تصاد الأسماك المدوخة، يستفيقون من غفلتهم، ويستعيدون آدميتهم ووعيهم المسلوب، فيردون الصاع، أكثر من ألف صاع للذين منحوهم ثقتهم، ويعاقبونهم أشد العقاب، بعد عمليات فساد مالي وأداري لا شبيه لها، وبعد الاستئثار بالسلطة، والتلاعب بمشاعر الناس. البصريون منحوا ولائهم لحزب الفضيلة وغيره من الأحزاب الدينية، في الانتخابات السابقة، لكي يحصلوا على غذاء جيد، ودواء غير فاسد، وعيش مطمأن لا تقلقه راجمات الصواريخ، وسلام مدني يتمتع تحت ظلاله الأفراد بحريات شخصية لا يصادرها مراهقون سياسيون، كيفما شاءوا ومتى ما شاءوا. لكنهم لم يحصدوا غير الحنظل، فغيروا ولائهم الآن، ومنحوه لمن يعتقدون انه سيحقق مطالبهم.وما حدث في كربلاء ونينوى والبصرة، حدث، أيضا، في محافظة الأنبار، التي كان تنظيم القاعدة ومعه المجاميع الدينية المؤيدة يسميها (محافظة المجاهدين). فقد حلت قائمة الحزب الإسلامي هناك في المرتبة الثالثة بعد القوائم العلمانية، أو غير التابعة لأحزاب الإسلام السياسي. كيف، إذن يكون مع الحق، من يقول أن الانتخابات الأخيرة كرست حكم الأحزاب الدينية ؟
إتلاف دولة القانون، قائمة مدنية وليست دينية  يعرف الجميع أن قائمة (إتلاف دولة القانون) هي قائمة المالكي، رئيس الوزراء وزعيم حزب الدعوة الإسلامية، الذي هو عضو في الإتلاف الشيعي الحاكم. لكن القائمة المذكورة لم يتزعمها المالكي (القديم) إنما المالكي (الجديد neoMalki). ولو أن قائمة إتلاف دولة القانون خاضت الانتخابات تحت راية المالكي (القديم)، أي باعتبارها قائمة إسلامية، وبشعارات إسلامية، لما حصدت أفضل مما حصدته قوائم الأحزاب الدينية التي (كانت) مؤتلفة معها. فوز هذه القائمة يعود للمواقف وللأفكار، وللانجازات أيضا، التي حققها المالكي (بحلته السياسية الجديدة). ومن يقول، من منافسي المالكي، أن فوز قائمته في الانتخابات الأخيرة كان بسبب (ثقل) المنصب الذي يحتله، ليسوا على صواب كامل، وإنما على جزء من صواب. فنحن نعرف أن السيد إياد علاوي خاض الانتخابات السابقة وكان رئيسا للوزراء، لكنه لم يتفوق وقتذاك ، مثلما تفوق المالكي، على منافسيه في هذه الانتخابات. ونعرف، أيضا، أن السيد إبراهيم الجعفري كان رئيسا للوزراء وخاض الانتخابات الحالية بهذه الصفة، فلم يشفع له المنصب. ونعرف كذلك أن الحزب الدستوري يتزعمه وزير الداخلية الحالي السيد جواد البولاني، لكن منصب البولاني لم يجعله متقدما على القوائم الأخرى. ونعرف أن عادل عبد المهدي يحتل منصب نائب رئيس الجمهورية، لكن منصبه لم يشفع لقائمة (شهيد المحراب) التي ينتمي إليها لتحقيق نصر كاسح.الفرق الجوهري بين المالكي الفائز في هذه الانتخابات وبين حلفائه في الإتلاف الخاسرين، يكمن في أن هولاء الأخيرين أرادوا أن (يخلقوا) ذاكرة تاريخية جديدة للعراق، ويحدثوا قطيعة تاريخية على هواهم ووفقا لأمنياتهم، بينما قدم المالكي نفسه باعتباره  الحارس الأمين للذاكرة التاريخية العراقية بكل ما تحمل هذه الذاكرة من ألوان ومن تعقيدات. المالكي فاز لأنه التقط (نبض) الشارع العراقي، وحلفائه في الإتلاف خسروا لأنهم حاولوا أن يقيسوا نبض الشارع بآلة قياس ضغط اخترعوها بأنفسهم.وكما يقول اللغويون بأن المفردات على قارعة الطريق يلتقطها من يشاء، والحاذق هو من يلتقطها ويوظفها بطريقة جيدة، فأن  الصدف أو المناسبات التاريخية في حياة الشعوب هي، أيضا، على قارعة التاريخ يلتقطها هذا القائد أو ذاك، بطريقة صحيحة، فيتحول إلى زعيم تاريخي. هذا ما فعله أديناور عندما كانت ألمانيا تئن من جراحها وخسارتها وتمزقها، فتحولت بقيادته إلى قوة كبرى. وهذا ما فعله ديغول وهو يأخذ بيد فرنسا الجريحة، الممزقة. وهذا ما فعله تشرشل، وقبله لينكولن. ونحن لم نذكر إلا هذه الأمثلة لان هولاء الزعماء قادوا بلدانهم، دون أن يمسوا، ولو شعرة واحدة، بالمسيرة الديمقراطية لكل بلد من بلدانهم. وواضح هنا، أننا نرد على من أبدى مخاوفه من تحول المالكي، بفعل نشوة الانتصارات، إلى ديكتاتور.الآن، وقد نأى المالكي بنفسه،على مستوى أطروحاته السياسية ورؤيته الوطنية العراقية المعاصرة، عن حلفائه السابقين في الإتلاف، فجاءه الانتصار يسعى على قدميه، عليه، إذا أراد تحقيق مزيدا من الانتصارات، أن يواصل السير قدما في الطريق الجديد الذي بدأ السير عليه. وهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن ينزع المالكي جلده، أو يخوض معارك سياسية مع حلفائه الأقدمين، أو يحاول التقليل من شأنهم بأي ثمن، فهذه الأفعال كلها ستقود إلى تهميش الآخرين، وبالتالي إلى إحداث خلل كبير في التوازنات أو الحقائق السياسية القائمة، مما يلحق ضررا بالغا في العملية السياسية الديمقراطية الجارية. إنه يعني، باختصار، أن يرتفع حلفاء المالكي في الإتلاف إلى مستوى ما يطرحه هو، وليس العكس. على المالكي، أيضا وأيضا وأيضا، أن يوسع تحالفاته لتشمل العراق كله، استعدادا لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة.إن الزعامة التاريخية تدق أبواب العراق هذه الأيام وتبحث عن أب لها، يملك عيني صقر يرى بهما ما لا يراه الآخرون، فهل سيتحول المالكي إلى صقر ديمقراطي، ينقذ العراق، ويحوله إلى عراق ديمقراطي يتسع، قولا وفعلا، لجميع أبنائه، لجميعهم دون استثناء؟