الديمقراطية لا تتجزأ، فلا يمكن لسياسي يصل إلى زعامة حزب أو مجموعة سياسية بطريقة غير ديمقراطية أن يكون ديمقراطيا على المستوى الوطني، ولا يمكن لنا أن نأتمن شخصا غير ديمقراطي على مؤسساتنا الوطنية العليا التي نريد لها أن تكون ديمقراطية حقا.
الديمقراطية الابتدائية أو الحزبية هي الأساس للديمقراطية الكلية أو الوطنية فالديمقراطية داخل الحزب تنعكس وطنيا وكذا الحال بالنسبة للدكتاتورية،  لذلك فإن من واجب الدولة الديمقراطية أن تنتبه إلى الآليات التي توصل السياسيين إلى رئاسة أحزابهم كي تضمن أن هذه الآليات ديمقراطية حقا. هناك اليوم أكثر من زعيم عراقي “منتخب” يمارس الدكتاتورية داخل مجموعته السياسية، وهناك من أعضاء قيادة حزبه من لا يستطيع أن يلتقي به أو يكلمه بصراحة خشية التعرض للإهانة والطرد من الحزب. وقد طُرد فعلا أعضاء في أحزاب “ديمقراطية” تعمل حاليا في العراق لأنهم أبدوا آراء معارضة أو تجرءوا وانتقدوا أداء قادة أحزابهم “الديمقراطيين” الذين يريدون أن يقودوا العراق نحو الديمقراطية. ونقل لي أحد الثقاة أن أحد مساعدي زعيم “ديمقراطي” يقف احتراما عندما يجيب على مكالمة هاتفية من ذلك الزعيم حتى وإن كان على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات عنه مما يشير إلى حالة الهلع المهيمنة على أعضاء ذلك الحزب بسبب ممارسات زعيمهم الدكتاتورية الذي لا يقرِّب إلا المطيعين له والمعجبين بشخصيته.  إن هذه الممارسات سائدة على ما يبدو في كثير من الكيانات السياسية العراقية، ولكن بطرق مختلفة ودرجات متفاوتة، وقد رأينا أن من يختلف في الرأي مع القيادة يضطر لترك الحزب أو التجمع ليشكل كيانا آخر، فلا مجال على ما يبدوا للرأي الآخر في هذه الأحزاب والتجمعات “الديمقراطية” وأعتقد أن هذا هو سبب وجود هذا الكم الهائل وغير المعقول من الأحزاب والتجمعات والكيانات السياسية. المشكلة الأخرى أن بعض القياديين الحزبيين والحركيين يضفون على أنفسهم قدسية دينية تمنع أتباعهم من انتقادهم أو التحدث بصراحة معهم وهذه مشكلة قائمة في التجمعات السياسية الإسلامية بشكل خاص ويجب الانتباه إليها لأنها تتعارض مع المبادئ الديمقراطية وبالتالي مع المصلحة العامة.

كل حزب لا يمارس الديمقراطية الداخلية هو ليس حزبا سياسيا ولا ديمقراطيا بل مجموعة تابعة لشخص معين يديرها حسب ما يشاء وكيفما يشاء. الديمقراطية تبدأ في البيت ومن لا يتبع نظاما ديمقراطيا داخل حزبه أو كيانه السياسي لن يحترم النظم والقواعد الديمقراطية في عموم البلاد وليس أهلا لأن يؤتمن على ثروات البلاد ومؤسساتها الديمقراطية.
الكثير من قادة الأحزاب السياسية العراقية الحالية لم يتغيروا منذ التأسيس، ولم يفسحوا المجال لآخرين كي يأخذوا دورهم في القيادة وهو يبررون ذلك بالقول إن أحزابهم بحاجة لهم “في هذا الظرف الحساس” وإن عليّهم أن “يكملوا المشوار أو يواصل الطريق حتى النهاية”، وهذا يعني في الواقع حتى الوفاة بعد عمر طويل إن شاء الله. والكثير منهم لم يطرح الأمر حتى على طريقة الرئيس “الديمقراطي جدا” علي عبد الله صالح مؤخرا عندما “أصر” على “تسليم السلطة للشعب” لكنه تراجع عن ذلك بعد أقل من أسبوع إثر “إصرار” جماهير حزبه على إبقائه زعيما للحزب! لا أدري كيف نمارس الديمقراطية إن بقي الزعماء في مواقعهم لعشرات السنين؟ الديمقراطية يجب أن تُمارس فعليا ولا يمكن أن تُمارس إلا من خلال إجراء تغييرات مستمرة في الإدارة والقيادة كي يُفسح المجال لآخرين من أجل التجديد والمساهمة في تقدم المؤسسة أو الحركة التي يقودونها. الدكتاتوريون دائما يتصورون أن الأمور لن تسير بشكل صحيح إلا إذا كانوا هم في “دفة” السلطة أو “سدة” الحكم وفي مركز الأحداث، لذلك فهم يصرون على البقاء في مواقعهم مهما كان الثمن وعلى حساب كرامتهم ومصلحة شعوبهم وبلدانهم، بل ويحاولون تعزيز مواقعهم وزيادة سلطاتهم لأنهم يعتقدون أن ذلك في مصلحة المجتمع أو الحزب أو الحركة أو المؤسسة التي يعملون فيها.

ليس من الضروري أن يكون هناك سبب “مألوف” أو “معقول” كي يتخلى المرء عن موقع مهني أو سياسي، رغم أن الأسباب كثيرة إن أراد المرء أن يبحث عنها. يجب أن تكون الرغبة في التغيير قائمة عند كل شخص وفي أي موقع، خصوصا في العمل السياسي، لأنه ليس بالأمر السهل وهو يحتاج إلى جهود مضنية وأحيانا يستغرق كل الوقت المتوفر لدى الإنسان، خصوصا في العراق بسبب كثرة الأحداث وسرعة التغيرات السياسية وتعقيداتها. إضافة إلى ذلك، أعتقد أن من واجب الذين يتولون المواقع الأولى في أي مؤسسة صغيرة كانت أم كبيرة، مهمة أم غير مهمة، أن يفكروا بفترة معينة للبقاء في الموقع ثم التخلي عنه للآخرين كي يأخذوا فرصتهم في خدمة المجتمع من مواقع أعلى، لا أن ينصب تفكيرهم على  أنفسهم وأقاربهم وأصدقائهم فقط. معظم قادة الأحزاب والحركات العراقيين متمسكون بمواقعهم وغير مستعدين للتخلي عنها تحت أي ثمن، ولم يعرضوا أنفسهم على مؤيديهم في انتخابات حرة بوجود منافسين آخرين، مما يعني أنهم ليسوا مؤمنين حقا بالديمقراطية. لم نسمع أن أحدا منهم، حتى الذين تولوا مواقع مهمة في الدولة في فترة من الزمن، قد قرر اعتزال السياسة والتفرغ لشيء آخر في حياته كممارسة العمل الخيري المجاني كما يفعل الكثير من سياسيي العالم بعد تخليهم عن مواقعهم السياسية. بل حتى المسنين منهم لا يزالون متمسكين بأبسط المواقع القيادية والإدارية وهذا أمر خطير جدا بالنسبة لمستقبل الديمقراطية في العراق، وهو يعني أيضا أن سياسيينا لا اهتمامات أخرى لهم غير السياسة والزعامة وهذا أيضا أمر خطير آخر فهو يدلل على قصر نظر وضيق أفق ونظرة أحادية للحياة عند المتصدين للعمل السياسي حاليا.

أتذكر أن رئيس اتحاد نقابات العمال البريطانية في الثمانينيات، لن موري، قد استقال فجأة من منصبه المهم الذي يقود من خلاله ملايين العمال ويساهم إلى حد كبير في توجيه السياسة الاقتصادية البريطانية، وعندما سئل عن سبب الاستقالة قال “إن هناك حدائق كثيرة لم أزرها، وزهورا كثيرة لم أشمها”. أما رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “هارولد ويلسون” فقد استقال من رئاسة الوزراء عند بلوغه سن الستين وقال إنه “مصمم على أن لا يمارس السياسة يوما واحد بعد بلوغه سن الستين”.  بينما تجاهل الزعيم الاشتراكي الفرنسي “جاك ديلور”، الذي كان رئيسا للمفوضية الأوروبية أيضا، مطالبات قادة الحركة الاشتراكية الفرنسية بتولي زعامة الحزب الاشتراكي وأصر على “الوفاء بوعده لزوجته بالتقاعد كليا من العمل السياسي بعد انتهاء ولايته في المفوضية الأوروبية”، على الرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تشير بشكل لا يقبل الشك إلى أن الحزب الاشتراكي كان سيفوز في الانتخابات الفرنسية لو كان ديلور زعيما له. وقد أدى انسحاب ديلور من زعامة الاشتراكيين الفرنسيين إلى هزيمتهم في الانتخابات عام 1995 وفوز المحافظين بزعامة جاك شيراك بالرئاسة لفترتين متتاليتين. ونفس الشيء حصل في كندا أواخر الثمانينيات عندما أصر رئس حزب الأحرار على التخلي عن قيادة الحزب ورئاسة الوزراء. أما في أمريكا فالقانون لا يسمح لأي رئيس في البقاء أكثر من ثماني سنوات متتالية في منصبه، وقد اعترض على هذا القانون عدد من الرؤساء الأمريكان بينهم ريغان وقالوا إنه يتعارض مع الإرادة الشعبية. المشكلة هي أن الشعب أحيانا ينطلق من مبدأ “الشر الذي تعرفه خير من الشر الذي لا تعرفه” وطالما استغل سياسيون هذه النزعة عند الناس للبقاء في السلطة.

لو أننا تفحصنا المشهد السياسي العراقي ونظرنا إلى الديمقراطية الحزبية لوجدناها غائبة، فمعظم الأحزاب المشاركة في العملية السياسية لم تعقد مؤتمرات علنية لأعضائها وأنصارها لمناقشة برامجها السياسية ومشاكل العراق ورؤيتها لحلها، ولم تجرِ انتخابات علنية لانتخاب قادتها، فمعظم القادة لم يتغيروا منذ تأسيس هذه الأحزاب، ولا نعرف إن كانت هناك آليات متبعة لانتخاب القيادة أو أن هناك نظاما داخليا لهذه الأحزاب، ولم نسمع أن هناك تنافسا قد جرى بين أعضاء هذه الأحزاب والكيانات على الموقع القيادي الأول وأن الأعضاء قد اختاروا فلانا بنسبة كذا وأن منافسه قد اعترف بهزيمته وهنأ الفائز بفوزه ولم ينشق عنه ليؤسس حزبا جديدا. هناك بالتأكيد آليات انتخابية في بعض الأحزاب، لكن الشعب العراقي لا يعرف بها ولم نسمع بمؤتمر علني منذ الإطاحة بالنظام السابق حتى الآن لأي من الأحزاب العراقية، رغم أن بعضها ربما عقد مؤتمرات، لكننا نتحدث هنا عن النشاطات العلنية والشفافة. في السابق كانت هناك أسباب مفهومة للسرية أولها قمع النظام وملاحقته للناشطين السياسيين وذويهم وأقاربهم وأصدقائهم. ولا ندعي أن الوضع قد أصبح أمينا وسلميا جدا الآن لكن بإمكان الأحزاب أن تعقد مؤتمرات علنية لأعضائها وتناقش رؤاها في الأمور المهمة التي تواجه العراق حاليا، وهذا بالتأكيد في مصلحتها لأنها ستطلع الشعب العراقي على آليات عملها وتساهم في نشر أفكارها. إن كنا قد أقدمنا على إجراء الانتخابات العامة ثلاث مرات خلال عام واحد وفي أحلك الظروف، وذلك للأهمية القصوى التي نوليها للديمقراطية، فكيف لا تتمكن الأحزاب الرئيسية المشاركة في الحكومة التي تمتلك إمكانيات بشرية ومالية كافية إن لم نقل هائلة، من إجراء مؤتمرات مصغرة لأعضائها كي تناقش قضاياها وتنتخب قياداتها؟

الديمقراطية الحزبية، إلى جانب الديمقراطية المؤسساتية والنقابية، ليست ترفا أو بطرا وإنما ضرورة أساسية لبناء الدولة الديمقراطية الوطنية بناءا صحيحا وترسيخ مبادئها وممارساتها بين السياسيين والمهنيين والناس جميعا. لقد تمكنا من وضع نظام ديمقراطي وطني بمساعدة العامل الدولي، إن لم نقل بمشاركته الفعالة، لكن هذا النظام الديمقراطي يبقى أعرج إن لم ننتبه إلى الممارسة الديمقراطية داخل مؤسساتنا وأحزابنا التي يجب أن تنظَم عبر تشريع قانوني يفرِض على الأحزاب المشارِكة في العملية السياسية إتباع آليات ديمقراطية لإفراز قادتها لأن هؤلاء سيصبحون قادة للبلاد في نهاية المطاف. أما تمويل الأحزاب فهو مسألة معقدة وخطيرة قد أتناولها في مقال مقبل.
جريدة الصباح البغدادية