في المشهد السياسي الراهن في العراق ثمة متغيرات ومتحولات وعلامات نكسة وطنية واسعة المعالم وإحباط شامل على كافة المستويات لا يشمل ابن الشارع العراقي العادي الذي يواجه يوميا مخاطر الموت والخطف والبحث عن لقمة العيش أو غالون بنزين أو نسمة هواء باردة في صيف العراق القاسي تمنعها مصيبة الانقطاع الدائم للطاقة الكهربائية , بل تشمل كل الشرائح العراقية المختلفة وخصوصا النخب الفكرية والثقافية والسياسية التي قاست الأمرين ودفعت ثمن النضال والمقاومة الغالي وحملت قضية الشعب للساحات الدولية وعملت طويلا ضد نظام الفاشية البعثية المرعب في أسوأ الظروف الإقليمية والدولية وفي ظل دعم وتغطية سياسية و أمنية واسعة كان يحظى بها النظام قبل ان تتبدل المعادلات الدولية ويشنق نظام البعث الصدامي نفسه بحبال حماقاته وتعدياته و استهتاره بكل القيم والأعراف الأخلاقية والدولية.
لقد حلم العراقيون طويلا بحلم الحرية الخالد وبالانضمام لبقية شعوب الأرض في التواصل والانفتاح والعطاء وفي بناء مجتمعهم وشق طريقهم بعيدا عن لغة الحروب والشعارات الثورية , وناضل الشعب العراقي طويلا بكافة قطاعاته وشرائحه وملله ونحله من اجل تقريب يوم الخلاص , وكنا نتصور ان الحرية ورياحها العاتية ستنظف العراق من كل بقايا إفرازات الفاشية المتعفنة النتنة فإذا بالواقع الجديد يفرز صورة سوداوية لم تكن في الأذهان ويفضح واقعا سياسيا واجتماعيا مترديا لم تستطع النوايا الحسنة وحدها تعديله أو تهذيبه , لتنكشف القوى السياسية العراقية على حقيقتها , وليزاح الغطاء عن حقيقة الضعف البنيوي وفقدان المناعة الرهيب للقوى السياسية العراقية التي لم تستطع ان تكون في مستوى التغيير و أظهرت جانبا كبيرا من صور التخلف بعد ان استطاعت الطائفية السياسية والمناطقية والعشائرية ان تفرض وجودها الفاعل لتنسحب النخب المثقفة حزينة منكسرة بعد ان أصبح للسلاح وللطائفة الصوت الأعلى , وبعد انتكاسة المشروع الوطني العراقي , وخلو الساحة من رابطة الولاء الوطني التي أصابها الوهن والضعف الشديد , ولهذه القضية صور وأشكال وأنماط مختلفة ومتباينة وهي قضية واسعة جدا أسدلت الستار عليها طبيعة الأحداث الراهنة في العراق وهي أحداث متفجرة مخيفة وتنذر بشر مستطير لعل أبرزها قضية الحرب الأهلية والتي في تصوري لم تعد مجرد احتمال مرعب بل أضحت واقعا يوميا معاشا تؤكده تلك التصفيات الطائفية المرعبة وتبادل التطهير العرقي والطائفي بين الطائفتين الكبيرتين في العراق ودخول الأطراف الإقليمية بشكل فاعل على خط الأزمة في العراق , فكل الذين تحمسوا وجاهدوا وعملوا بشكل حثيث لتحرير العراق من جلاديه البعثيين المتخلفين وجدوا أنفسهم اليوم أمام صور كارثية مرعبة لم تكن في الحسبان؟

في ضوء الصراعات الدموية المتصاعدة على النفوذ والسلطة والحكم والتحكم من دون مراعاة لمعايير الكفاءة أو لتاريخ النضال , فالمثقف العراقي المستقل الحر الذي لا يحظى بحماية حزبية أو بملاءة طائفية أو بعصابة عشائرية لا مكان له في العراق الجديد للأسف ? والعراق اليوم بات يشهد هجرة وطنية مضادة جديدة لكل الطاقات والخبرات الفاعلة بعد ان وصل اليأس والإحباط لأبعد مدياته وبات واحدا من أهم سمات العراق الجديد , ولعل في ذكر بعض نماذج من السياسيين العراقيين الذين أصابهم الإحباط وقرروا الصمت أو الرحيل والعودة للمنافي دليلا على مصداقية ما نقول ! , ورغم ان القائمة تضم العشرات إلا انني اخترت نموذجين عراقيين يعبران عن طبيعة الموقف الراهن!

الشخص الأول هو السيد (حميد الكفائي) الذي عرفناه في الماضي كاتبا سياسيا واقتصاديا وإعلاميا مرموقا في هيئة الإذاعة البريطانية وفي صحيفتي الغارديان و الاندبندت, وبعد ان عاد للعراق عقب التحرير شغل منصب سياسيا مهما هو (الناطق الرسمي باسم مجلس الحكم) ثم شكل حركة المجتمع الديمقراطي التي خاضت الانتخابات الأخيرة والتي نعرف جميعا مداخلاتها ومهازلها!! ورغم كل تاريخه المعروف حورب من قبل حزب الدعوة الحاكم واجبر على ترك مقر سكنه ومكتبه في بناية التصنيع العسكري السابقة والتابعة لمجلس الوزراء الحالي وبطريقة تفتقر للذوق والأخلاقية أو للحد الأدنى من الاحترام الواجب بين القوى والأطراف السياسية وضمن عقلية لتصفية الحسابات لا تختلف عن العقلية البعثية السقيمة البائدة , واليوم يقرر السيد الكفائي ترك الجمل بما حمل ومغادرة العراق للمنفى البريطاني من جديد بانتظار ولادة وطنية عراقية جديدة قد تطول هذه المرة… والله اعلم !.
أما الشخصية الثانية فهو الإعلامي المعروف السيد (محمد عبد الجبار الشبوط) الذي عرفناه في المعارضة السابقة صوتا جهوريا معروفا ورأس في العراق تحرير صحيفة الصباح شبه الرسمية قبل ان يعزل ليعود بعد ذلك بصورة أشبه بالانقلاب العسكري ليرى نفسه بعد برهة اعزلا لا يملك من أمره شيئا , فترك الصباح العراقية ليكون كاتبا في إحدى الصحف الكويتية!! رغم ان اسمه لا يزال في ترويسة الصباح كرئيس للتحرير!! وكما أسلفت سابقا فالقائمة تطول وتطول وان نسيت شيئا فلا أنسى الأخ والصديق (فائق الشيخ علي) الذي كان احد نجوم المعارضة العراقية في الساحة الإعلامية ليعيش اليوم معزولا عن الوضع السياسي العراقي في دولة الكويت مراقبا ومتأملا وحزينا وهو يرى ويتابع مشهد التفكك الوطني في العراق الحلم… انه الإحباط الشامل الذي يبدو انه قد بات قدر العراقيين جميعا!!
26/6/2006

dawoodalbasri@hotmail.com
نشر أيضا في موقع “أحرار سوريا” أدناه:

http://www.ahrarsyria.com/6-26-2006/art-6-26-3.htm