الحياة، ٤ مارس/ آذار ٢٠١٨ 

لا يمكن الإلمام بحياة المفكر العراقي فالح عبد الجبار الذي غادرنا قبل أيام إثر أزمة قلبية مفاجئة. والسبب أن فالح نشط في مجالات الفكر والسياسة والإعلام مبكراً وتنقل بين المدارس السياسية المختلفة، من القومية إلى الماركسية ثم انتهى به الأمر منظّرا لليبرالية والديموقراطية. كما أن فالح غزير الإنتاج لأنه يعمل ليل لنهار وكأنه في عجلة من أمره فكان يكتب المقالات ويلقي المحاضرات ويكتب كتباً ويترجم أخرى ويدير مؤسسات مهمة ويتواصل مع وسائل الإعلام.

لقد تميز فالح بصفات قلما تتوافر لمثقف أو مفكر. كان حاد الذكاء وحاضر الذهن ودقيق الملاحظة وثاقب التحليل، وكان مجدداً في كل مجال طرقه، وأنيساً لا تُمل مجالستُه، ودائم التواصل مع أصدقائه، حتى أن المرء ليندهش كيف يجد الوقت لأداء كل هذه المهمات وإتقانها.

كانت لفالح سلطة معنوية على العراقيين، بمختلف توجهاتهم السياسية وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية، سلطة قلما توافرت لعراقي بل لم تتوافر حتى لعالم الاجتماع الراحل علي الوردي. لم يُعرَف لفالح مذهب أو طائفة إذ كان فوق الطوائف والتصنيفات المجتمعية والمناطقية، وهو موقع اختاره له الناس فلا أحد يتحسس من أقواله وآرائه الناقدة. لقد قرأ العراقيون فالح كما يجب أن يُقرأ: عالم صادق شجاع تهمه الحقيقة ولا شيء غيرها، ولا يخشى في قولها لومة لائم. وما إن يستجد طارئ في الشأن العراقي، حتى تتجه الأنظار إلى فالح كي يدلي برأيه فيه. 

في المعارضة كان فالح سنداً قوياً للمعارضين الذين وجدوا في آرائه وكتاباته حججاً قوية لمواجهة أنصار صدام من عرب وأجانب، إذ كان محاوراً مقنعاً ومثقفاً عميقاً، فلم يملك محاوروه ومجادلوه سوى احترام آرائه ومواقفه.

تعرفت على فالح قبل ربع قرن، وقرأت بشغف كل ما تيسر لي من كتاباته، خصوصاً المقالات التي كتبها في «الحياة» وكنت أحتفظ بها، إلى جانب مقالات آخرين كان لكلماتهم وقع مماثل كجورج طرابيشي والطيب صالح. في الغداء الأخير الذي جمعنا في لبنان قبل بضعة أشهر، سألني فالح إن كنت احتفظ بأي من مقالاته المنشورة في «الحياة» في التسعينات وفرح كثيراً عندما أجبته بالإيجاب، لكنني أخبرته بأنني وضعتها، مع بقية مقتنياتي، في صناديق في مخزن أعلى المنزل ويحتاج البحث عنها إلى تفرغ.

وعلى رغم أن فالح اشتهر كعالم اجتماع، إلا أنه أجاد مهارات عدة في آن، فقد كان صحافياً وناقداً أدبياً قديراً ومؤرخاً نبيهاً ومترجماً حاذقاً. قبل عقدين تقريباً، طلب مني عالم الاجتماع العراقي إبراهيم الحيدري أن أراجع مادة مترجمة إلى الإنكليزية باعتباري مترجماً ومهتماً بعلم الاجتماع. وعند مراجعتي الصفحات الأولى للنص وجدته نصاً متقناً، كُتب بلغة إنكليزية رصينة لم يكن بمقدوري أن أبدع مثلها. اتصلت بالحيدري وأخبرته بأن المترجم خبير لا يُضاهى، فمن هو؟ قال إنه فالح عبد الجبار!

كان فالح لا يمل القراءة، وفي شتى الحقول، فمن كتب المذكرات والسيرة إلى الروايات إلى الكتب الأكاديمية والتاريخية والعلمية والأدبية، بالإنكليزية والعربية. التقيته ذات يوم في مقهى ببيروت وكان بين يدي كتاب «من التصويت إلى العنف» لجاك سنايدر وقد اقترحت على فالح أن يقرأه فرد علي قائلاً «لقد قرأته وترجمته إلى العربية عندما صدر قبل سنوات عدة»!

هرع فالح إلى بغداد بعد سقوط النظام، كبقية العراقيين المعارضين، وجال في العراق للاطلاع على أحواله بعد ربع قرن من مغادرته. لم يتردد في الذهاب إلى الأحياء الفقيرة والتحدث إلى أهلها والتعرف على آرائهم وأحوالهم ولم يكتفِ باستطلاع مدينته بغداد، بل ذهب إلى البصرة والنجف وكربلاء وبابل ومدن أخرى فقيرة وغنية، وقابل رجال دين وشيوخ عشائر ومثقفين، باحثاً عن أي معلومة يمكنه الاستفادة منها في أبحاثه. أخبرني في لقائنا الأخير في تموز (يوليو) الماضي بأنه ذاهب قريباً إلى العراق وإن لديه مشروعاً مهماً يعتزم إكماله، لكنه لم يفصح عن المشروع «حتى يكتمل».

اختار فالح بيروت مركزاً لأبحاثه لقربها من العراق وبريطانيا، وأسس فيها معهداً مرموقاً للأبحاث والترجمة والتدريب، وكل نشاطاته تُعنى بالعراق، وقد كان لي شرف المساهمة في بعض نشاطاته متطوعاً، فالمعهد يفتقر إلى التمويل الكافي. 

لم ينل فالح ما يستحقه من اهتمام عراقي رسمي، على رغم أن الجميع يعترف بفضله على المثقفين والصحافيين والباحثين، عراقيين ومهتمين بالعراق، عبر أبحاثه الرصينة وتعاونه معهم. لم يهتم قادة العراق الجدد بهذا العالم الكبير الذي فاق علي الوردي في قيمة الأبحاث التي قدمها والنشاطات التنويرية التي مارسها. فهو لم يبخل على أحد بمشورة أو معلومة أو مقابلة، وكان دائماً متوافراً لوسائل الإعلام، فيما استقر باحثون ومثقفون كثيرون في قصور عاجية، لا يكلّمون أحداً ولا يتفاعلون حتى مع من يسعى إليهم ولا يردون على من يتصل بهم. فإن كان العراق قد أهمل فالح في حياته فإنه يستطيع أن يكرمه في مماته بإطلاق اسمه على جامعة أو مؤسسة بحثية أو شارع أو مكتبة.

لم يبدُ على فالح أي وهن أو شعور بالتعب، بل ظل يعمل بعنفوانه السابق متجاهلاً استحقاقات العمر، فأثقل على جسمه بأعباء لم يستطع تحملها وأرهق قلبه بأعلى من طاقته، فلم يكتمل معه المشوار. في نيسان (أبريل) الماضي أخبرني صديق بأنه رأى فالح مدفوعاً على كرسي في مطار هيثرو، فاتصلت به فوراً فطمأنني بأنه بخير لكن لديه ألماً في إحدى ساقيه منعه من السير، وليس هناك ما يدعو إلى القلق. وبعد يومين التقينا وفي نهاية اللقاء ساعدته في حمل حقيبته اليدوية التي بدت وكأنها ترهقه. وبينما كنا نسير إلى السيارة قال لي: «لم يعد أي عضو في جسمي يعمل بكفاءة سوى عقلي»!

عاش فالح إثنتين وسبعين سنة، قضاها في البحث الجاد والمفيد وقدّم خلالها مئات المقالات والمحاضرات والمساهمات وعشرات الكتب والتراجم حتى مات واقفاً، وما كان ليفضل أن يموت في الفراش. إن كان فالح قد غادرنا بعقله الكبير ورأيه الــسديد وحضوره المميز وروحه المرحة الناقدة، فإن أفكاره ستبقى مناراً للباحثين لأجيال عدة مقبلة.

 

حميد الكفائي

http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/27772590/فالح-عبد-الجبار–عاش-فاعلاً-ومات-واقفاً