تمر اليوم الذكرى الثلاثون على اغتيال الزعيم الوطني العراقي السيد مهدي الحكيم على أيدي رجال المخابرات في نظام صدام في الخرطوم عام ١٩٨٨. ولا عجب أبدا في أن كثيرين من العراقيين في أنحاء العالم المختلفة يحيون ذكرى هذا الرجل المعطاء الذي وضع مصالح الآخرين فوق مصالحه وسلامته الشخصية ودفع حياته ثمنا لتوجهاته الوطنية والإنسانية.

تعرفت على السيد مهدي الحكيم شخصيا عام 1985 في لندن بعد أن افتتح (مركز أهل البيت) جنوبي العاصمة البريطانية، وقد كان المركز حقا ملتقى مفتوحا لكل العراقيين والعرب والمهتمين بقضايا العالم الإسلامي جميعا، من بريطانيين وغربيين وآسيويين. وبعد اغتياله، أداره على النهج نفسه، الراحل محمد بحر العلوم، إذ ظل المركز يستقبل العراقيين والعرب وكل صاحب قضية ومهتم في شؤون الدين والثقافة والسياسة والأدب.

 كنا، نحن الشباب المعارضين لدكتاتورية صدام الدموية، نبحث عن رموز وطنية جامعة يتفق عليها العراقيون وقد وجدنا في السيد مهدي الحكيم رمزا عراقيا مميزا يوحد العراقيين بكل توجهاتهم الفكرية والدينية والسياسية، إذ كان من أوائل الذين عارضوا الدكتاوترية عام ١٩٦٩. لقد تمكن مهدي الحكيم من أن يجعل الدين يلائم الحياة العصرية ويتفق مع تطوراتها ومستجداتها ولا يختلف معها قيد أنملة، كما حاول التوفيق بين التفسيرات الشيعية والسنية للنصوص الدينية قدر ما استطاع، وفي الحقيقة كانت له رؤيته الخاصة في الدين والتي تختلف عن متبنيات المذاهب الأخرى أحيانا وتتفق معها في أحيان أخرى. 

وقد تميز الحكيم بفكر نير وجرأة في شرح النصوص الدينية بشكل مقنع وجعلها مقبولة ومتلائمة مع الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية والنظم العصرية، ومما جعل أفكاره محببة ومقبولة هو التواضع الجم والصبر والأناة التي تميز بها والإصرار على مواصلة العمل الدؤوب في إقناع الآخرين بوجهة نظره.

 لم يكن مستغربا أن تجد في مجلسه غير المسلم واللاديني إلى جانب المتدين السني والشيعي والعربي والأجنبي، فقد وجد الجميع في السيد مهدي ما كان يبحث عنه. وكان مجلسه يعج بالمثقفين والشعراء والأدباء والأساتذة من عراقيين وعرب وأجانب، وقد التقيت بكثيرين منهم هناك.  

كنت حريصا على حضور نشاطات مركز أهل البيت في كل يوم أحد بما في ذلك يوم الأحد السابع عشر من كانون الثاني 1988 وهو يوم استشهاده. ذهبت إلى المركز ولم أجد سوى قلة من الأشخاص، خلافا للمعتاد، وكان بينهم السيد عبد الزهرة زوين الذي قال لي إن السيد مهدي مسافر وسيكون في المركز الأسبوع المقبل. وبينما كنت عائدا إلى المنزل ذلك المساء، سمعت في أخبار إذاعة البي بي سي، الخدمة العالمية، خبر استشهاده. لقد شكل استشهاده صدمة كبرى لمحبي السيد مهدي وللمعارضة العراقية وكل المهتمين في الشأن العراقي وحقوق الإنسان. وقد أذيع خبر اغتياله ضمن نشرات الأخبار الرئيسية في وسائل الإعلام البريطانية مع مقابلات مع رموز المعارضة العراقية آن ذاك، وأولهم صديقه سعد صالح جبر.

 من العبارات التي سمعتها من السيد مهدي الحكيم ورسخت في ذاكرتي هي قوله إن صدام قد سهَّل مهمتنا في تعريته أمام الرأي العام العالمي لغبائه وكثرة أخطائه وجرائمه، وقد قارن صدام بيزيد الذي قال إنه لم يترك مجالا للشك في سوئه وضلاله، على خلاف أبيه (معاوية) الذي كان يتعامل بذكاء مع الأحداث.

 لم يكن السيد مهدي يتردد في الذهاب إلى أي مكان واللقاء بأي شخص لشرح القضية العراقية ولم يهتم لسلامته الشخصية كثيرا وكنا نخشى عليه من الاغتيال وننصحه بأخذ الحيطة والحذر في تحركاته لكنه اعتاد على الإقدام والاستعداد للتضحية وكان يقول إن صدام يريدنا أن نكون حذرين قلقين خائفين منه كي نقلص من نشاطاتنا خوفا من إرهابه لكن ذلك لن يحصل ولن نستسلم لهذا المجرم فأرواحنا ليست بأغلى ممن استشهدوا قبلنا.

 كان يحمل هم العراقيين جميعا أينما ذهب ومن هنا جاء تصميم النظام على تغييبه جسديا متوهما أنه بهذه الجريمة الشنعاء سيتمكن من البقاء في السلطة والإفلات إلى الأبد من العقاب على ما ارتكبه من جرائم. لكن اغتيال مهدي الحكيم في عاصمة عربية نائية قد قدم دليلا قاطعا للعالم العربي، الذي كان وقتها يتجاهل جرائم صدام بحق الشعب العراقي، بأن نظام صدام هو نظام إرهابي لا يتردد في ارتكاب أي جريمة ويصفي جسديا من يختلف معه في الرأي أينما وجد وإن كان ناشطا حقوقيا سلميا.

 مآثر السيد مهدي الحكيم كثيرة وأفكاره النيرة أضاءت الطريق لكثيرين وإنسانيته الفريدة وتسامحه وحبه لبني البشر هي من الصفات التي جمعت العراقيين حوله. نفتقد اليوم لأمثاله ممن وضعوا أنفسهم وقدراتهم وحياتهم في خدمة الجميع، بل على العكس نجد من يخدع الناس باسم الدين ويتاجر بمظلومية العراقيين ويحتال عليهم… السيد مهدي الحكيم لا ينتمي أبدا لهؤلاء الذين يحاولون اليوم أن يسوقوا أنفسهم باسمه ويستفيدوا من تضحياته ويستمروا في خداع الناس باعتبارهم سائرين على خطه وهو منهم براء. لقد اختلف في حياته مع نهجم ولو كان حيا لتبرأ منهم علنا فهو لا يتردد في قول الحق ولو على نفسه. 

السيد مهدي الحكيم بريء من كثيرين ممن يحيون ذكراه اليوم، وإن كانوا من أقرب أقاربه، محاولين الاستفادة سياسيا من سيرته العطرة وسمعته الطيبة. إنه بريء منهم ومن نهجهم وليعلموا أن أساليبهم هذه لا تنطلي علينا نحن الذين عرفناه جيدا ولا اعتقد بأنها تنطلي على عموم العراقيين الذي خبروا هؤلاء الدجالين وعرفوا فسادهم وزيف ادعاءاتهم… تحية لروحه الطاهرة وذكراه العطرة…

حميد الكفائي