الصباح البغدادية 2 حزيران 2005
كلما تذكرت عزالدين سليم ازدحمت عندي المشاعر وتغلبت العواطف والدموع على الأفكار والذكريات. لازلت أتذكر صباح السابع عشر من أيار 2004 جيدا، وكيف أنسى يوما أليما كهذا، يوما ذرفت فيه دموعا لم أذرفها من قبل على عزيز. كنت انتظر مجيء الرئيس عزالدين سليم كي أطلعه على مجريات الأمور هنا في بغداد، فقد كان في زيارة لكردستان للتباحث مع الزعماء الأكراد حول تشكيل الحكومة الجديدة التي ستتولى الأمور بعد حل مجلس الحكم.
 
كان مجلس الحكم يبدأ أعماله الساعة العاشرة صباحا وكنت دائما أحضر إلى مكتبي في المجلس حوالي الساعة التاسعة لأطّلع على جدول أعمال المجلس لذلك اليوم وأتصفح محضر جلسة اليوم السابق، وأوجه أعضاء مكتبي باهتمامات ذلك اليوم الإعلامية. توجهت إلى قاعة الاجتماعات في التاسعة والنصف لأجد الكثير من الأعضاء وقد بدأوا يتقاطرون على القاعة. وفي هذه الأثناء وصلنا خبر صاعق بأن موكب الرئيس سليم قد تعرض لاعتداء إرهابي وأنه قد أصيب بجروح. خيم جو من الألم والحزن والقلق على الحاضرين، وظللنا نتابع ما حصل أولا بأول آملين أن تكون جروح الرئيس خفيفة وقابلة للعلاج.
 
وكما جرت العادة في غياب الرئيس، فقد تولى رئيس المجلس المقبل، الشيخ غازي الياور، رئاسة الجلسة وابتدأها بالقول “إننا منشغلو الذهن اليوم لما حصل لأخينا أبي ياسين الذي نتمنى له الشفاء العاجل، لكن مثل هذا الأمر لن يثنينا عن مناقشة القضايا المهمة التي تهم بلدنا”. وقد قدم الشيخ غازي وكيل وزارة الخارجية حامد البياتي ليتحدث للأعضاء حول المناقشات الجارية في الأمم المتحدة حول العراق. وقد بدأ  البياتي حديثه بالقول إن وزارة الخارجية ارتأت أن ترسل وفدا إلى نيويورك لحضور جلسات الأمم المتحدة حول إنهاء الاحتلال ووضع القوات المتعددة الجنسيات في العراق وصندوق التنمية العراقي، وكان مسترسلا في حديثه ذاكرا بالتفصيل خطط الوزارة للتعامل مع القضية. وقد عجبت لقدرة السيد البياتي على التعامل مع موضوع المناقشة بتجرد تام عما يدور حوله رغم الجو الحزين المليء بالقلق والترقب. ولا أعتقد أن كثيرين استمتعوا بحديث الدكتور البياتي أو انصتوا له، باستثناء الدكتور الباجه جي والأستاذ حميد مجيد موسى، اللذين ناقشاه عدة مرات. فقد ظل معظم الحاضرين يتحدثون في لقاءات جانبية حول الوضع الأمني ولماذا وصل إلى هذا الحد وكيف يمكن السيطرة عليه، وقد سمعت بعض الأعضاء يقول إنه “لو كان الأمن بأيد عراقية لما تدهور إلى هذا الحد”، وهذه رؤية لم تثبت الأيام اللاحقة صحتها، فقد تدهور الأمن بمرور الزمن رغم تصدي الأجهزة الأمنية العراقية لعملية حفظ الأمن.
 
كانت الآمال كلها معلقة على أن تكون جروح الرئيس قابلة للعلاج وأنه سيبقى معنا لمواصلة الطريق، وسبب التفاؤل هو أن سيارة الرئيس كانت مدرعة ولا تتأثر بالرصاص أو الشظايا. لكننا كنا قلقين على سلامته، فالرجل في الستينيات من عمره وكان ضعيف البنية وقد تشتد عليه الجروح.
 
كان عزالدين محبوبا من قبل الجميع نتيجة لأخلاقه العالية وتواضعه المنقطع النظير وتجرده من كل عصبية وميله العجيب نحو الانغمار بعيدا عن الشهرة. إلا أن آمالنا قد تلاشت بعد أن جاءنا الخبر الصاعق بعد أقل من ساعة بأن الرئيس عز الدين سليم قد فارق الحياة فور وصوله إلى المستشفى، وقد أعلن الخبر الأليم على مسامع الأعضاء والمسؤولين الحاضرين الشيخ غازي الياور. تحدث الحاضرون، الذين انضم إليهم فورا السفيران بول بريمر والأخضر الإبراهيمي، عن خصال الشهيد الحميدة والتزامه بالعملية الديمقراطية. كما قرر المجلس استدعاء وزير الداخلية سمير الصميدعي لمساءلته عن ملابسات العملية والوضع الأمني بشكل عام. وكان القرار الوحيد للمجلس ذلك اليوم هو أعلان الحداد العام في البلاد وإقامة تشييع رسمي يليق برئيس دولة للشهيد عزالدين سليم، وتحويل المناسبة إلى مظاهرة شعبية ضد الإرهاب.

تعرفتُ على عز الدين سليم أول مرة عند زيارته إلى لندن في العام 2001، وقبل ذلك الحين كنت أسمع به من أصدقائه ومحبيه وأتباعه، وقد أعجبت بما سمعت عن خصاله وكرمه وإنسانيته، لا سيما وأنني كنت خلال الثمانينيات ناشطا وثيق الصلة بالتيار الإسلامي العراقي الذي يكن لسليم كل احترام ومحبة رغم أن بعض قادته استاءوا منه إثر قيادته لأول “انشقاق” عن حزب الدعوة الإسلامية. كنت أسمع أنه يساعد كل من يطلب المساعدة، وأنه متواضع وأنه ذو أخلاق عالية، وأن شعوره الوطني العراقي لا يضاهيه سوى شعوره الإنساني. إلا أنني بعد لقائي به وعملي معه، وجدت شخصا أكبر وأسمى بكثير من الشخص الذي كنت أسمع به، ولست مبالغا إن قلت إن أخلاق عزالدين سليم هي أقرب إلى أخلاق الملائكة منها إلى أخلاق البشر، أو أنه صنف من البشر لم نألفه تماما. أثناء تعاملي معه كنت دائما أقول لأصدقائي ومعارفي إن علينا أن نحافظ على شخصيات نادرة كعز الدين سليم، مهما كان الثمن، فهم لا يتكررون بسهولة في هذا العالم المليء بالمتنافسين على المصالح المادية الآنية المتجاهلين للمثل السامية.

كان تواضع عز الدين سليم الفريد من نوعه يبعده عن الأضواء، إلى حد أن الكثير من الصحفيين لم يكونوا يعرفون أنه عضو في مجلس الحكم، وفي أحد الأيام طلب مني أحد الصحفيين العراقيين العاملين في إحدى القنوات العربية أن أشير عليه بشخصية سياسية مرموقة يجري معها لقاءا، فنصحت بإجراء لقاء مع عز الدين سليم، فقال لي الصحفي “أرجوك: أريد شخصا معروفا وله وزن في الساحة العراقية”! فغضبت منه وقلت له هذه هي بالضبط مواصفات الرجل. فأنت لا تعرف عز الدين سليم على ما يبدو ولا تعرف وزنه في الساحة العراقية والإسلامية، وأرجو أن تحترم رأيي في هذا الأمر. لم يعش عز الدين سليم لنفسه مطلقا بل عاش ومات من أجل الآخرين. ولم يميز بين شخص وآخر على أساس الدين أو العرق أو الرأي السياسي، بل كان يعتبر الناس جميعا سواسية وكان يؤمن بذلك إيمانا عميقا ولم يفعله لأسباب سياسية. كان متدينا ليس مثله متدين، وليس كغيره من المتدينين. لم يكن يميز بين الناس على أساس التدين أو عدمه. كان يدعو إلى حكم إسلامي ولكن عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة وليس عن طريق الاكراه وكان يعتبر الخوض في الأمور السياسية من اختصاص المهتمين بأمور الناس فقط ولا يمكن أن يجيدها إلا من يهتم بها ويتابع شؤونها يوما بيوم. كان النظام الإسلامي الذي يؤمن به أقرب إلى النظام العلماني منه إلى أنظمة الحكم الدينية، فهو يؤمن بحرية الفرد في الاختيار في كل الأمور ويطبق الآية الكريمة “لا إكراه في الدين” تطبيقا عمليا لا كلاميا. لم يميز ضد المرأة السافرة رغم اعتقاده بوجوب الحجاب وكان يقول “المتدين الحقيقي لا تخيفه المرأة السافرة أو المقتصرة في لباسها” فقوة الإيمان في رأيه لا تضاهيها قوة أخرى.
 
كان زاهدا في كل شيء حتى في اسمه، فترك اسمه الحقيقي “عبد الزهراء عثمان محمد” ولقبه “العبادي” واتخذ اسما ذا معنى يليق بشخصيته. كان متسامحا لأقصى حد، ويتعامل مع الناس على أساس المساواة والندية. لا يتكبر على أحد لكنه لا يقبل أن يتكبر عليه أحد، وقد نقل لي شاهد عيان أنه أوقف شخصا متنفذا جدا عند حده عندما لم يعره الاهتمام المطلوب. فلم يخش نفوذه غير العادي في المجتمع بل وقف الموقف الصحيح والشجاع في الوقت المناسب.

كان صادقا وشجاعا لا يخشى في الحق لومة لائم، وكان شيعيا يحترم السنة إلى أبعد الحدود ويعاملهم معاملة أخوية بحق وليس مجاملة. أتذكر أنه عقد اجتماعا لعشيرة عبادة التي ينتمي إليها، بشقيها السني والشيعي. وقال لأفرادها المجتمعين في نادي العلوية حسب ما نقل لي هو رحمه الله: “إنكم تمثلون وحدة العراق المذهبية والطائفية فحافظوا عليها واسعوا إلى تعزيزها وبذلك فقط ستتفق مصلحتُكم مع مصلحة بلدكم، وليس في فرقتكم مصلحة لكم أو للعراق”.
 

أتذكر رده على التهاني له على توليه رئاسة مجلس الحكم من قبل الصحفيين في المؤتمر الصحفي الأول له كرئيس لمجلس الحكم، وكان الرد “هذا منصب لا يُهنأ عليه صاحبه”. لم يرشح عز الدين سليم لمنصب الرئيس، بل انتخبه الأعضاء في غيابه عندما كان في زيارة للأردن، وعند عودته فوجئ بانتخابه لرئاسة المجلس.

كانت أجوبته للصحفيين تنم عن احترام شديد للسائل مهما كان السؤال، وكان يعطي السائل حقه ويجيب على الأسئلة حتى وإن تكررت، ولا ينهر من يلح عليه بالأسئلة بل يجيب عليها برحابة صدر قل نظيرها، إلى درجة أن مؤتمره الصحفي كان يستغرق ما يقارب الساعتين بينما كان الوقت المعتاد ساعة واحدة أو دون ذلك. وكانت إحدى الملاحظات التي كنت أحملها في حقيبتي له يوم استشهاده هي أن لا يطيل في إجاباته الصحفية ولا يجيب على الأسئلة المتكررة حتى لا نتجاوز الوقت المحدد للمؤتمر الصحفي. لم أتمكن من إيصال هذه الملاحظة له ولا أعتقد أنه كان سيأخذ بها في كل حال، فالتعامل الإنساني كان فوق كل اعتبار بالنسبة له ولا يمكن له أن يبخل بوقته على أحد.

عاش في إيران أكثر من عقدين من الزمن لكنه عاش عراقيا عربيا ولم يتخل لحظة واحدة عن عراقيته بل كافح من أجلها في أحلك الظروف وأصعب المواقف واختلف مع كثيرين من رفاق دربه حولها. كان يرى ضرورة استقلال الرأي العراقي المعارض لنظام صدام عن الدول الأخرى حتى وإن كانت هذه الدول تناصر القضية العراقية وتتبنى موقفا مقاربا لمواقف الوطنيين العراقيين. وكان يري أن على شيعة العراق أن يميزوا أنفسهم ومواقفهم عن شيعة إيران، فهناك اختلاف في الثقافة والخلفية والقومية والظروف بين العراق وإيران. وقد سبب له موقفه المستقل عن الموقف الإيراني متاعب كثيرة طيلة إقامته في إيران مع السلطات الإيرانية التي أخرجته من البلاد بعد سقوط نظام صدام حسين مباشرة وختمت جواز سفره بعبارة “مغادرة بلا رجعة”.

عز الدين سليم عاش مظلوما ومات مظلوما، فلم يحصل على ما يستحق من الاهتمام في حياته، رغم أن الناس ترى بأعينها صفاته الملائكية، بينما تغيّب عن جنازته ومجلس الفاتحة العديد من السياسيين العراقيين بسبب الظروف الأمنية الصعبة، لكن آلاف العراقيين في البصرة، مدينته الوفية، قد نعوه بما يستحق وأقيمت له مجالس الفاتحة في كل مكان من العالم أقام فيه عراقيون.
 
عندما سألتني وسائل الإعلام عنه بعد استشهاده قلت “إن الإرهابيين الذي قتلوه لم يدركوا أنهم أول الخاسرين من جراء فعلتهم الشنيعة هذه، فلو قيض لعز الدين سليم أن يقرر مصيرهم بعد القبض عليهم، لكان ميالا للصفح عنهم والتعامل معهم تعاملا إنسانيا راقيا” ولا زلت أعتقد بذلك.

عز الدين سليم أسطورة عراقية حقيقية، وشخصية كان يمكن أن تجمع العراقيين بمختلف انتماءاتهم القومية والدينية والسياسية. شخص لا يملك بداخله غير العلم والحب للناس جميعا. كم نحن بأمس الحاجة إلى رجل كهذا الآن، وكم كنا محظوظين به في حياته، فحمدا لله أن منَّ على العراق بعز الدين سليم، ومن حق كل عراقي اختلف معه أم أتفق أن يفخر بهذا الرجل. فليكن عز الدين سليم في ذكراه الأولى قدوة للعراقيين في زهده وتواضعه وإنسانيته.