مسئولون يملأون دوائرهم بالأقارب والأصدقاء والأتباع في مخالفة صريحة لمبادئ العدالة والوطنية التي يدعونها


الصباح البغدادية 13-03-2006
تولي أية مسؤولية عامة ليس بالأمر السهل بل يتطلب توفر الكثير من الصفات القيادية في متوليها، وأولى هذه الصفات هي الالتزام  بالقانون والصمود أمام المغريات التي يوفرها المركز لشاغله، ومن أهم المبادئ التي يجب أن يلتزم بها المسؤول هي تطبيق معايير ثابتة على الجميع والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، فلا تفضيل لأحد دون استحقاق، ولا إقصاء أو عقوبة لأحد دون تقصير أو ذنب، ومن المخالفات والتجاوزات التي كنا ننكرها على النظام السابق وعارضناه بسببها أنه كان متعسفا في كل شيء وظالما وممارسا للتمييز بين الناس على أسس عرقية وطائفية ومناطقية وسياسية، فقد سمح النظام بتولي أخوان الرئيس وأقاربه وعشيرته وأبناء قريته ومدينته أهم المواقع في الدولة دون أدنى استحقاق سوى كونهم أقارب، وكان هذا التمييز بين المواطنين على أساس القرابة والمناطقية والولاء، واعتماد أسلوب المحسوبية والعشائرية والطائفية هو نقطة البداية لنهاية النظام السابق. وقد أضعف التمييز الدولة برمتها كما أضعف أيضا قبضة النظام على السلطة لأنه أحدث شرخا في الوحدة الوطنية وأحدث ضعفا في الانتماء الوطني للمميز ضدهم من أبناء الشعب العراقي. وكم عانى العراقيون من هذه الطريقة البدائية في الحكم والتعامل غير الإنساني والتمييز غير المبرر، وكم عوّلوا على تغيير النظام كي يتغير كل ذلك ويُرفع الظلم وتُعاد الأمور إلى نصابها.

وافترض العراقيون أن النظام الجديد الذي أقيم على أنقاض أسوأ نظام عرفه العراق لن يكرر أخطاء النظام السابق وأنه سوف يبدأ عهده بنبذ التمييز بين الناس في فرص العمل وأنه سوف يحرص كل الحرص على تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب ويعامل الناس على قدر المساواة، لكن الذي حصل منذ الحكومة الأولى ومازال يحصل في الكثير من الأحيان بعيد عن مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، فقد أصبح تعيين الأقارب أمرا متوقعا من كل مسؤول وتقريب الأصدقاء وترفيعهم عملا وطنيا يتسابق عليه المسؤولون، والمسؤول الأقوى هو الذي يجمع أكبر عدد من أقاربه وأصدقائه في دائرته أو دوائر الدولة الأخرى “كي يكونوا سندا له”. والغريب أنك تسمع من البعض أحيانا “أن صدام تمكن من المحافظة على الحكم لأنه جمع أقاربه معه”!!! وينسى هؤلاء أن صدام لم يحافظ على حكمه أساسا، وأن عمله ذاك هو الذي قاده نحو الهاوية وأكسبه احتقار الناس وكرههم له ولأفراد نظامه.

عندما تدخل بعض دوائر الدولة هذه الأيام تجدها مليئة بأقارب المسؤولين من الأبناء والأخوان وابناء الاخوان والأصهار وأبناء العم إلى أبناء العشيرة والمدينة وزملاء الدراسة، كنت في زيارة لإحدى الدوائر قبل فترة ورأيت عددا من الأشخاص وقد بدا الشبه بينهم وبين مسؤول الدائرة جليا لكل ذي عين. ولا حاجة للسؤال فهؤلاء هم دون شك أقاربه المباشرون. هناك أفراد تولوا مناصب مهمة في الدولة العراقية ولا معرفة لهم من قريب أو بعيد بنشاط المؤسسات التي تولوا إدارتها ولم يعملوا يوما في مجال عملها، لكنهم تولوها لأنهم أقارب لهذا المسؤول أو ذلك. أتذكر ذات مرة أن صحفيا غربيا سأل أحد المسؤولين في دولة خليجية تهيمن عائلة واحدة على مقدراتها “لماذا يصر أفراد العائلة الحاكمة على تولي المناصب الرئيسة في البلاد”؟ فكان جواب المسؤول الخليجي مفحِما: “إن عائلة آل فلان تريد أن تخدم بلدها!”. الأقارب والأصدقاء هم أبناء البلد دون شك وهم يريدون خدمته أيضا والكثيرون منهم متضررون ومستحقون ومن أهل الكفاءة، ولكن ماذا عن الآخرين؟ ماذا عن الذي لا يعرف أحدا في النظام الجديد وماذا عن الفقراء والمحتاجين؟ من يهتم لهم ومن يساعدهم ويعيَّنهم؟ قيل لي ذات مرة إن علي أن آتي بأقاربي كي يكونوا ضمن أفراد حمايتي باعتبارهم محل ثقتي ويدافعون عني عند الشدائد، ففكرت كثيرا ورغم أنني أوافق الرأي القائل إن الأهل والأقارب ربما يدافعون عن قريبهم أكثر من غيرهم، لكنني رفضت مبدأ أن يحيط المرء نفسه بأقاربه وهو في عمل رسمي لأن مجرد هذا المنظر يوحي بالقبلية والضعف وانعدام الثقة بين المسؤول وباقي أبناء الشعب، أعتقد أن بإمكاننا أن ننطلق إلى فضاء أوسع لنرى أن معظم الناس هم أهل للثقة ويستحقون المساعدة وليس الأقارب والأصدقاء فقط. ولو أن بعض المسؤولين اطلعوا على أوضاع الكثير من الناس لترددوا كثيرا في تفضيل أقاربهم وأصدقائهم على الآخرين. من المعيب حقا أن تُدار دولة جديدة أقيمت على أنقاض نظام ضُرِب فيه المثل في الظلم والفساد والتعسف بالطريقة التي تدار بها حاليا، حيث التمييز والرشوة والمحسوبية ومحاباة الأقارب والأصدقاء والأتباع، إن سير الأمور بالوتيرة التي تسير بها حاليا ينذر بتفاقمها وتدهورها تدهورا شديدا في المستقبل القريب وعندئذ سوف تبدأ موجة الاستياء الشعبي مرة أخرى لندخل ـ لا سمح الله ـ في دوامة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار. العراق الجديد يحتاج إلى مسؤولين مستعدين للتضحية ويمتلكون الشجاعة الكافية كي يقفوا بوجه التجاوزات بكل أشكالها، حتى وإن كان مرتكبوها من أحزابهم أو أقاربهم أو أصدقائهم.

أمام الحكومة المقبلة واجب مقدس وهو محاربة الفساد بكل أشكاله، والرشوة والمحسوبية ومحاباة الأقارب في مقدمة الممارسات الفاسدة. الدولة العراقية في بداية تكوينها وإن أُسست على خطأ فلن تقام دولة العدل والمساواة والانصاف التي سعينا إلى إقامتها وناضلنا من أجلها عشرات السنين وقدمنا ثلاثة ملايين شهيد في هذا السبيل. نصيحتي، كمواطن ناضل ثلاثين عاما ضد الظلم والتعسف، لأخواني المسؤولين الجدد إن احذروا القانون ولا تتجاوزوا عليه لأنه سيلاحقكم يوما، كما يُلاحَق الآن مسؤولون ارتكبوا مخالفات في الأمس القريب والبعيد، وإعلموا أن تفضيل الأقارب والأصدقاء والأتباع على المواطنين الآخرين هو عمل غير قانوني بالإضافة إلى كونه غير أخلاقي، وهو تعسف في استخدام الصلاحيات سوف يضعكم تحت طائلة المحاسبة، ونصيحتي لزملائي الصحفيين إن أدوا عملكم ولاحقوا المُسيئين والمتجاوزين ولا تأخذكم في الحق لومة لائم. الإعلام هو السلطة الأولى ولم تعد رابعة، وإن أدى الإعلاميون عملهم بحياد واستقلالية فإن الجميع سوف يخشى الإقدام على أي عمل غير محسوب النتائج خشية الوقوع في المحذور وانكشاف الخطأ لاحقا أمام الرأي العام. تقع على عاتق الإعلاميين العراقيين مسؤولية مهنية كبرى وهي البحث المستمر وبشتى الطرق المتاحة قانونا عن مواطن الخلل بهدف كشفها للرأي العام. إن سكت الإعلاميون أو سخّروا أنفسهم لأغراض أخرى أو جاملوا على حساب مهنتهم فإنهم سيساهمون في تأخر الدولة العراقية التي تأخرت وتلكأت بل تراجعت كثيرا.