الحياة اللندنية – 2009-01-30
سبق لي وأن شاركت في الانتخابات في العراق مرتين في 2005 كرئيس لقائمة انتخابية هي قائمة «حركة المجتمع الديموقراطي»، التي شاركت ضمن القدرات المتاحة لها آنذاك. ورغم كوني مرشحا، كنت مراقبا بالدرجة الأولى، إذ لم أتمكن من خلع قبعتي الإعلامية طوال فترة اشتغالي في العمل السياسي التي لم تجاوز الثلاث سنوات.

سألني أحد الناخبين في تجمع انتخابي ذات مرة إن كنت فعلا أدعو الناس للتصويت لقائمتي أم للقوائم الأخرى، كوني كنت واقعيا و»منصفا» في حديثي عن الآخرين، ولم أدعُ أحدا للتصويت لقائمتي، بل لمن يعتقدون أنه الأقدر على خدمتهم. ومن هنا كنت مراقبا عن كثب وبعمق لتلك الانتخابات ورأيت بنفسي الأسلحة الانتخابية التي استخدمتها الأحزاب المتنافسة ضد بعضها البعض. وبسبب الوضع الأمني المتأزم في المناطق الغربية آنذاك، وانفراد الأحزاب الكردية في التنافس في كردستان، كانت ساحة تحركي جنوب البلاد ووسطها، فزرت معظم المحافظات الجنوبية وتحدثت إلى الناس بصراحة عن همومهم ونواياهم وأسباب تصويتهم لهذا الحزب دون ذاك، وكنت أنصح من ألتقي أن يصوتوا لمن يعتقدون أنه قادر على تحسين الخدمات وزيادة الوظائف وتحقيق الأمن.

في مناطق الجنوب والوسط كانت هناك قائمتان متنافستان رئيسيتان هما الإئتلاف الشيعي التي تضم أحزاب الدعوة والمجلس الأعلى والفضيلة والتيار الصدري وبعض «المستقلين»، والثانية القائمة العراقية الوطنية بزعامة الدكتور إياد علاوي. بالطبع هناك قوائم أخرى كالتوافق والمؤتمر الوطني وأخريات، لكنها لم يتوقع لها الفوز بسبب الاستقطاب الطائفي والديني القائم وقتها. ومن هنا فالمنافسة الحقيقية كانت بين هاتين القائمتين دون غيرهما. لقد استخدم المتنافسون كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، خصوصا قائمة الإئتلاف التي قست بشكل كبير على منافسيها. والسلاح الأول الذي استخدم سلاح الدين والتدين وكيف أن الواجب الديني يحتم على الفرد المسلم أن يصوت للقوائم التي تخدم الدين وتضم متدينين. وانتشرت فتاوى مكتوبة وشفهية زعم موزعوها أنها لمراجع دين كبار تنصح بعدم التصويت للقوائم العلمانية أو القوائم الفردية أو الصغيرة. كما انتشرت فتوى شفهية تقول إن المرجع آية الله السيستاني ينصح بالتصويت لقائمة الإئتلاف. ومما رسَّخ هذا الاعتقاد أن صور السيستاني التي تحمل رقم قائمة الإئتلاف (555) بخط كبير، انتشرت في كل مكان. كذلك فإن أربعة من وكلائه كانوا مرشحين ضمن هذه القائمة في الانتخابات الأولى.

وشاع بين البسطاء أن من لا يصوت للإئتلاف سوف ينال غضب الله يوم القيامة وستكون زوجته حراما عليه! ووزعت أيضا كتب أدعية تحمل صورا لرئيس الوزراء آنذاك، إبراهيم الجعفري، رافعا يديه بالدعاء، وملصقات أخرى تطلق عليه صفات الأنبياء مثل «القوي الأمين» وما إلى ذلك. وبالإضافة إلى سلاح الدين كان هناك سلاح الطائفية الذي استخدم بكثافة رغم أن الأغلبية في تلك المناطق من مذهب واحد، وتم ذلك بطريقة مبتكرة. فمثلا انتشرت في المنطقة بيانات قيل إنها وزعت في المناطق السنية تهاجم الشيعة وتدعو الناس للتصويت إلى قائمة علاوي، وتقول إنه، رغم كونه شيعياً، يعمل لصالح السنة. واستخدمت تلك البيانات لغة لا يمكن أن تصدر عن شخص مسؤول مشيرة للمتمعّن أنها ملفقة. كما انتشر ملصق كبير يحمل صورة كبيرة نصفها لعلاوي والنصف الآخر لصدام حسين في محاولة لربط الاثنين معا.

السلاح الآخر كان تغييب الآخر بشتى الوسائل، ومنها تمزيق الصور والملصقات التابعة للقوائم الأخرى. فهناك فريق من «الشباب» في كل منطقة مهمته مراقبة الجدران في الأحياء والأسواق والشوارع والانطلاق لتمزيق الإعلانات التابعة للقوائم الأخرى، فلم تبق إلا إعلانات قائمة الإئتلاف، ولأنها تحمل صورة المرجع الشيعي، فليس هناك من يجرؤ على تمزيقها. ثم هناك إطلاق الشائعات والأكاذيب ضد المرشحين الآخرين والافتراء عليهم. وكانت إحدى وسائل الدعاية مبتكرة جدا، فأقدم أحد خطباء الجوامع على امتداح أحد المرشحين المنافسين لقائمته إلى درجة أن الحاضرين ظنوا أنه يؤيده فعلا، لكنه في النهاية قال: «رغم كل هذا فالخيار الذي أمامكم هو بين التصويت للسيد السيستاني أو للسيد الفلاني، وأعتقد أن خياركم واضح»! وقبل الاقتراع بيومين بثت قناة الجزيرة برنامجا حواريا حول الانتخابات شارك فيه معلقان عراقيان قال أحدهما كلاما فسره مخططو الدعاية الانتخابية لقائمة الإئتلاف على أنه إهانة للسيد السيستاني. وقد قاموا إثر ذلك بتنظيم المظاهرات الحاشدة المؤيدة للإئتلاف والمعادية لقائمة علاوي. ونقل لي أحد كبار رجال الدين في النجف أنه كان في منزله وعنده عدد من الزائرين، ودخل عليهم شخص أخبرهم أن الجزيرة قد بثت كلمات بذيئة جدا عن السيستاني. فما كان من الحاضرين إلا أن هبوا في مظاهرات تنديد بالجزيرة وتأييد للمرجع الشيعي. لكنْ ما لبثت المظاهرة ان تحولت كليا للتنديد بإياد علاوي وقائمته. وسلاح التغييب الجسدي استخدم أيضا إذ اغتيل مرشحون أو مروجون للقائمة العراقية. وقد اغتيل قبل أيام، أثناء حملة الانتخابات المحلية التي جرت هذا الشهر، مرشح حزب الدعوة في الحلة، هيثم الحسيني، ربما على أيد أحزاب منافسة.

بعد إجراء الانتخابات، بقيت أتجول في المناطق الجنوبية، وأكثر الذين تحدثت معهم قالوا إنهم صوتوا لقائمة الإئتلاف لأنهم سمعوا أن المرجعية الدينية نصحت بذلك. واللافت أن أكثر مخالفات الانتخابات الماضية ارتكبتها الأحزاب الدينية التي تتحدث باستمرار عن مخافة الله، بينما لم تُسجَّل مخالفات مماثلة ضد الأحزاب العلمانية. وأحسب أن المخالفات تلك لا بد أن تتكرر كلها أو بعضها في الانتخابات المحلية الحالية والانتخابات البرلمانية آخر العام، بل قد تزداد شدة، لأن الأحزاب الدينية ترى أنها استفادت بسببها. ورغم أن المرجع السيستاني أعلن أخيرا عبر وكلائه أنه يرفض أن يستخدم اسمه أو صوره لأغراض سياسية، فالأحزاب الدينية الشيعية مصممة على ما يبدو على المضي في هذا الطريق، بل زادت استخدامها للمناسبات الدينية ودور العبادة للدعاية السياسية. كما إن تزامن موعد الانتخابات مع الاحتفالات الدينية الشيعية خلال شهري محرم وصفر، والذي قد لا يكون من قبيل الصدفة، جعل استخدام الدين ودور العبادة في الدعاية أمرا حتميا.

إن مشكلة زج الدين في السياسة ستستمر معنا لفترة طويلة ولا حل لها سوى أن يشرّع البرلمان قانونا يحظر فيه تشكيل الأحزاب السياسية على أسس دينية كما الحال في تركيا والكثير من الدول الديموقراطية الأخرى. لكن هذا مستبعد حالياً. فالبرلمان الذي تشكل الأحزاب الدينية الأغلبية فيه لن يقدم على إضعاف نفسه. فالديموقراطية تشترط الحرية في الاختيار والتعبير، بينما زج الدين ومراجعه في العملية السياسية يحد من حرية الناخب في اختيار الحزب الذي يتفق مع برنامجه السياسي.

واللافت في الحملة الأخيرة أن الأحزاب الدينية اختلفت في ما بينها حول هذه المسألة، فدان رئيس الوزراء نوري المالكي استغلال بعض الأحزاب للمناسبات الدينية واعتبرها «تضليلا» للناخبين. بينما تمسك عمار الحكيم وحزبه بذلك وأصروا عليه. ورغم أن وعي الناخب هذه المرة قد تطور عما كان، فكثيرون، على ما يبدو، سيتأثرون بالدعاية الدينية والمذهبية.


http://www.daralhayat.com/archivearticle/275039