غانم حمدون كما بدا لي
كان اسما كبيرا في عالم الثقافة اليسارية، ولا غرابة، فقد كان محرر “الثقافة الجديدة”، وكنت صحفيا اتلمس طريقي بهدوء وابحث عما يزيدني خبرة ومعرفة. كنت ارتاد المنتديات الثقافية في لندن، ديوان الكوفة تحديدا، واحرص على الذهاب إلى أي ندوة أو محاضرة أو تجمع ثقافي أو سياسي، اولا للاختلاط بالعراقيين وثانيا لإثراء معرفتي بالجديد.

التقيت بغانم حمدون أول مرة في ديوان الكوفة مطلع التسعينيات عندما القى محاضرة هناك. للأسف لا اتذكر موضوعها لكنني اتذكر انني اعجبت بها… وعندما انتهت المحاضرة، بدأ الحاضرون كعادتهم يتحدثون في أحاديث جانبية تشكل جزءا مهما من اللقاءات الثقافية بل ربما يعتبرها البعض أهم كثيرا من المحاضرة…

ذهبت لأتحدث مع المحاضر. اعربت عن اعجابي بما قاله ورغبت أن احصل على نسخة مكتوبة إن أمكن. فقال سوف تنشر في العدد المقبل من (الثقافة الجديدة)! عندها عبرت عن دهشتي من أن تلك المجلة العريقة مازالت تصدر! وما ان تفوهت بهذه الكلمات حتى بدا الانزعاج واضحا على وجه محدثي. “انت لا تعرف ان الثقافة الجديدة مازالت تصدر؟ كل هذه الشهرة التي بلغتها عبر السنين والآلاف من القراء وانت لا تعلم بها؟”. احرجني رده كثيرا وشعرت بالخجل من جهلي وسارعت لتطمينه بأنني لم اطلع عليها لاهتمامي بقضايا أخرى وليس لأنها غير مهمة، كما أنها غير متوفرة على نطاق واسع في لندن.

لم يزعجني ما بدا أنه (استخفاف) منه بي، لأن غانم حمدون لا يكترث سوى للحقيقة ولا يهتم إن انزعج منه الآخرون أو أنه ازعجهم بتعليق أو رأي إن كان مؤمنا بأن ما يقوله حقيقة. كان يعيش في عالم الثقافة والمثالية الإنسانية ومن أراد التعرف عليه حقا فليلحق به في عالمه ويعش معه فيه ويتحمل ما يصدر منه من (استخفاف واستهجان)…

ورغم ما يبدو للآخر (تعاليا) منه أو ربما (زهدا) أو (إعراضا) عما يهتم به الناس، لكن غانم حمدون بقي محبوبا لأن الجميع يدرك تميزه الثقافي ويعلم جيدا بأنه لا يسعى إلى هدف شخصي. فلم يبتغِ زعامة أو شهرة أو مال أو أيا من المكاسب التي يسعى اليها الآخرون. كان محظوظا أنه عاش في وسط يعرفه جيدا ويقيم ثقافته وإيثاره وتضحياته وكان مقتنعا بما لديه وسعيدا في ما يفعل ولا تزعجه آراء الآخرين الناقدة… هكذا بدا لي غانم حمدون رغم أن عالمه الثقافي كان محصنا وصعب الاقتحام، بالنسبة لي على الأقل. اليوم يودعنا غانم حمدون بعد حياة امتلأت علما وعطاء وإنسانية وكرما وامتدت تسعة عقود.

حميد الكفائي 

25 شباط 2017