استجوابات الوزراء العراقيين تفضح حجم الفساد وأسبابه

الحياة، ١١ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٦
استجواب وزير المالية العراقي هوشيار زيباري في البرلمان أخيراً، وقبله استجواب وزير الدفاع خالد العبيدي ثم إقالته، تكشف حراكاً سياسياً من نوع جديد، يتحدى التوافقات الطائفية القديمة، على رغم أن تلك التوافقات وهياكلها وآلياتها لا تزال قوية وتدافع عن بقائها.
وقد كشفت تلك الاستجوابات، ربما لأول مرة، عما يجرى داخل المؤسسة السياسية والتنفيذية من اتفاقات وتفاهمات لمصلحة الأفراد والكتل، تتجاوز القانون ومصلحة الدولة والمجتمع. مثل هذه الاستجوابات كانت شبه غائبة إبان حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي امتنع وزراء في عهده عن حضور الاستجوابات البرلمانية، مستعينين بالمحكمة الاتحادية التي منعت استجوابهم لأسباب بينتها في حينه، على رغم أنها تُفسر كتسييس للقضاء أفقده استقلاليته وطعن بصدقيته.
لكن المسكوت عنه في هذه الاستجوابات وغيرها من التحركات المهمة على الساحة العراقية، والتي قد تحدث مستقبلاً، أن من يقف وراءها هو رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي ما زال يمتلك كتلة برلمانية قوية ومؤسسة إعلامية فاعلة، إضافة إلى زعامته الرسمية لحزب الدعوة وكتلة دولة القانون وادعائه الزعامة المعنوية لمؤسسة «الحشد الشعبي» التي حاول خلفه حيدر العبادي أن يجرده منها عبر ربطها رسمياً بدائرة الأمن الوطني.
ما زال المالكي قوياً ويحاول، بعدما فقد رئاسة الوزراء، أن يكون فاعلاً في الساحة، سلباً أو إيجاباً، حتى وإن لم يؤدِ ذلك إلى عودته إلى رئاسة الحكومة. لم ينسَ أن من أطاح به، ليس فقط أعضاء قيادة حزبه الذين استفتوا الزعيم الديني علي السيستاني حول بقائه في السلطة فنصح بتغييره، بل قوى سياسية أخرى منها «اتحاد القوى» بزعامة أسامة النجيفي وسليم الجبوري، والتحالف الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني وفؤاد معصوم، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والمجلس الأعلى بزعامة عمار الحكيم، بالإضافة إلى رفيقيه القديمين، إبراهيم الجعفري وحيدر العبادي.
نعم، هذه قوى كبيرة وفاعلة وهي الآن متنفذة، لكن المالكي برهن على أنه قادر على إرباكها جميعاً بقدراته الكثيرة التي تراكمت عبر ثماني سنوات في الحكم. لقد تمكنت كتلته من الإطاحة بوزير الدفاع خالد العبيدي الذي ساعدها على نفسه عبر تعامله الازدرائي مع البرلمان وأعضائه، ما دفع نواباً كثيرين كانوا سيؤيدون بقاءه لأن يصوتوا ضده. وكان الاستجواب موجهاً ضد خصومه في كتلة «متحدون» التي تدعم وزير الدفاع. وبغض النظر عن خصومات الكتل السياسية، اطلع الناس عبر ذلك الاستجواب على الصفقات التي كان يجريها السماسرة والتجار وكيف يتحرك هؤلاء لابتزاز الوزراء والحصول على العقود منهم مقابل سكوتهم عنهم، أي استخدام الاستجواب كوسيلة للضغط على الوزراء. أحد السماسرة مثلاً كان يساوم الوزير بأنه سيمنع عنه الاستجواب مقابل مليوني دولار! واكتشف الناس كيف أن النواب، بالتعاون مع الوزراء، يمكن أن يضاعفوا أسعار المشتريات الحكومية للحصول على مكاسب مالية، وكل ذلك كان يحصل في الخفاء سابقاً.
كما كشف استجواب وزير المالية، هوشيار زيباري، الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها الوزير الذي بإمكانه أن ينفق ما يشاء من أموال الدولة المخصصة لوزارته على ما يشاء من النشاطات الشخصية والحزبية، وقد تكون هذه السلطات الواسعة المسؤولة عن إفلاس الدولة العراقية واضطرارها إلى الاقتراض من البنك الدولي لتسيير شؤونها. ولأن الوزراء ينتمون إلى كتل سياسية متنافسة ومتناحرة، فإنهم يتبارون في الإنفاق على أتباعهم وأنفسهم وأحزابهم، والنتيجة تحميل الدولة تكاليف غير قادرة على تحملها. وقد عرفنا من استجواب زيباري أن كلفة نقل أفراد حمايته من بغداد إلى أربيل تتجاوز مليوني دولار في العام، بينما يكلف البيت الذي يسكنه ميزانية الدولة ما يعادل 150 ألف دولار في السنة، وهي تتجاوز الأسعار السائدة في بغداد بعشرة أضعاف تقريباً. ولعل من أبلغ ما قيل في شأن تفشي الفساد الحكومي ما قاله النائب مشعان الجبوري: «الجميع فاسدون بمن فيهم أنا»!
ومهما كانت الدوافع السياسية الكامنة وراء استجوابات الوزراء، والتي قد لا تكون وطنية ونزيهة، فإنها في النتيجة تكشف المستور سابقاً وتزيد من وضوح الصورة أمام العراقي الواعي الذي سيستخدمها في حساباته السياسية مستقبلاً ويبني قراراته عليها. وفي الوقت نفسه فهذه الاكتشافات، التي هي فضائح في الحقيقة، تكشف مدى استهتار بعض المسؤولين بالقوانين ومصالح الناخبين ومشاعرهم، وهي جعلت بعض المسؤولين والسياسيين يترددون وإن قليلاً في الاستغراق في التجاوز على المال العام وتسخير مقدرات الدولة للأتباع والأقارب. إلا أن الكتل السياسية، التي شيدت قوتها (ومجدها) على حساب المال العام ومصالح الناس، لن تألو جهداً في اكتشاف طرق مبتكرة للاستحواذ على المال العام، ومنها الإتيان بوزراء ومسؤولين (تكنوقراط) ضعفاء يسيّرونهم وفق مصالحهم، لكنهم في الوقت نفسه غير مسؤولين عن إخفاقاتهم، وهؤلاء (التكنوقراط) سيفشلون حتماً لأنهم ضعفاء ومسيرون لخدمة مصالح أحزاب أخرى، ولأنهم غير سياسيين فهم لا يهتمون للرأي العام.
ومن الطرق الأخرى السائدة حالياً أن يعيِّن كل وزير أتباع الوزير الآخر، كي لا يبدو أمام الآخرين أنه يعين أتباعه وأقاربه فقط، وهذا يحصل في وزارات عدة بين كتل سياسية «متعاونة» في ما بينها.
السياسيون والمسؤولون الذين جُبِلوا على الفساد والخداع لن يتحولوا فجأة إلى نزهاء وناجحين، بل سوف يحاولون الاستفادة من مواقعهم العامة في أول فرصة سانحة، والخيار الأمثل للشعب هو عدم انتخاب هؤلاء بل الإتيان بطبقة سياسية جديدة قادرة على إدارة بلد في القرن الحادي والعشرين. الإدارات العراقية طوال القرن الماضي لم تنتمِ إلى العصر الذي تعيشه وقلّما عملت على بناء دولة قوية تخدم شعبها، بل كانت موغلة في العيش في أوهام الماضي، من حزب البعث الذي أراد أن «يبعث» فينا قيم الأمة (الميتة طبعاً) والتي لم نعرف ما هي لأن الأقوال تخالف الأفعال، إلى طبقة سياسية ماضوية مختلفة على كل شيء باستثناء البقاء في الحكم بأي ثمن وعلى حساب قوة الدولة ورفاه المجتمع. الشعب صاحب القرار، فهل هو جاهز لاتخاذه؟
حميد الكفائي
 
 
 
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/17323909/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D9%81%D8%B6%D8%AD-%D8%AD%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%87