د. ماجد ﮔنّون: عاش شاهدا ومات شهيدا 

                                                                                           ماجد ﮔـنّون على مقاعد الدراسة في ثانوية الرميثة للبنين عام 1976 (يسار الناظر)
 
إنه يوم حزين جدا أن أنعى زميل الدراسة ماجد ﮔنّون، ذاك الشاب الذكي الوسيم الممتلئ بالحياة، والطبيب الذي تعامل بإنسانية مع الجميع وساعدهم في أحلك الظروف.
 
كان معي في المدرسة هو وشقيقه سلام قبل ما يقارب الأربعين عاما وكان الشقيقان من أذكى الطلاب على الإطلاق وكانا دائما معفيين من الامتحانات لأنهما كانا يحققان معدلات عالية جدا في السعي السنوي.
 
لقد عاش سلام وماجد يتيمين منذ الصغر بعد أن قتلت سلطة الإنقلاب أباهما القيادي الشيوعي (ﮔـنّون علي) عام 1963 بعد الإطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم.
                                                                         
كان والدهما ﮔـنّون علي معروفا بالثقافة العالية وسمو الأخلاق وأتذكر أن والدي كان يشيد به دائما…
 
كان ماجد وسلام يتميزان بالوداعة والابتسامة الدائمة ودماثة الأخلاق وكنا جميعا نحبهما ونحترمهما في الوقت نفسه لرصانة مواقفهما ولتأريخ عائلتهما الحافل بما يثير الإعجاب والاحترام.
 
وكان الشقيقان من أرقى التلاميذ على الإطلاق، في كل شيء، من الالتزام والنبل إلى الاجتهاد في الدراسة والتفوق، وكان ماجد يتميز إضافة إلى ذلك بالوسامة والابتسامة الدائمة…
 
يقع بيتهما على ما أتذكر على مقربة من شارع المستشفى (أو الأطباء) على النهر شمالي المدينة إذ كنا نخرج من المدرسة وكانا يتجهان عند العودة في هذا الاتجاه بعد عبور الجسر، ومن الصدف أن ماجد يتخرج طبيبا في منتصف الثمانينيات ويعمل في المستشفى الواقع في ذلك الشارع (انتقل لاحقا إلى مكان آخر قرب الطريق العام)…
 
                                                                                                 الدكتور ماجد ﮔـنّون على قارعة الطريق بعد خروجه من السجن وتعرضه للتعذيب

انقطعت علاقتي بالاخوين منذ ان تركت الرميثة عام 1977 وانتقلت للدراسة في الإعدادية المركزية في الديوانية ثم غادرت إلى لندن بعد إكمالي الدراسة الإعدادية عام 1980 لكنني سمعت بقصته لاحقا وعلمت من أصدقاء أن سبب اعتقال ماجد هو أنه قام بخفض صوت التلفزيون في مقهى عام في الرميثة (مقهى مشكور) عندما كان المذيع يذيع بيانا عسكريا أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فاعتقله رجال الأمن معتبرين (خفض صوت التلفزيون أثناء الأخبار) عملا عدائيا للنظام الذي كان يخشى من أي تحرك حتى لو كان من طفل.
 
أي هزالة هذه وأي انحطاط. خضع ماجد للتعذيب على ما يبدو حتى اختل توازنه وأصيب بمرض نفسي عندها أطلق سراحه ليكون شاهدا على قسوة نظام البعث ووحشيته غير المبررة وظلمه المنظم للناس جميعا. 
 
وعندما خرج من السجن لم يستطع أن يعود إلى ممارسة مهنة الطب بسبب المرض بل تغير كليا واصبح كما يتضح من الصورة يجوب الشوارع هائما…
 
مجتمعنا يحترم الطبيب إلى حد التقديس لذلك بقي ماجد محتفظا باحترامه بين الناس حتى بعد مرضه، بالإضافة إلى أخلاقه العالية وطبيعته الإنسانية ومعرفة الناس بمكانة عائلته وتأريخها والظلم الذي وقع عليها. 

 كان الشقيقان سلام وماجد جريئين كأبيهما وأتذكر أنهما كانا يرفضان حضور المناسبات (الحزبية الطابع) التي تقدم على أنها مناسبات وطنية ويخرجان من المدرسة بتحد واضح ولكن كانت تغلب عليهما صفة الوداعة واحترام الآخر.

كانت إدارة المدرسة، بل وحتى منظمة حزب البعث في المدرسة تحترمان الشابين وتأريخ عائلتهما وتدركان الظلم الذي وقع عليهما بمقتل أبيهما ولا تضايقانهما كثيرا، لكن الأمور تغيرت لاحقا عندما تغوَّل حزب البعث على المجتمع. ماجد يصغرني بعامين ربما، لأنني كنت أسبقه بمرحلة دراسية أو اثنتين، لكن أخاه الأكبر سلام كان معي في الصف نفسه لفترة في الدراسة المتوسطة قبل انتقالي إلى مدرسة أخرى في الديوانية أثناء الدارسة الإعدادية. 

للأسف توفي ماجد بعد معاناة طويلة إذ لم يستطع أي شخص أن يساعده لأن مساعدته تعتبر عملا عدائيا لنظام صدام. بقي ماجد يعاني المرض حتى وفاته وهو في مطلع الخمسينيات من عمره. إنه يوم حزين جدا بالنسبة لي…
أودع ماجد وقلبي يعتصر ألما وحزنا على مأساة بلد بدأت ولم تنهِ بعد. نظام صدام الوحشي ظلمه والمجتمع أهمله خوفا وربما دون قصد لاحقا، لكن التقصير أو القصور يشملنا جميعا. أعزي نفسي أولا وأخي سلام كنّون وكل أفراد عائلته وأصدقائه ثانيا، وأرثي حال مجتمعنا الذي لم يستطع أن ينصف شخصا عاش مظلوما طوال حياته فمن مقتل أبيه إلى سجنه وتعذيبه إلى بقائه دون رعاية أو عناية تليق بشخص فاضل مجتهد مثله، كان سيساهم في تطوير ورقي مجتمعه لو اتحيت له الفرصة أو على الأقل لو لم يُعتدَ عليه هذا الاعتداء الغاشم….
 
لقد خسرنا جميعا. خسرنا ماجد وخسرنا قيمة التكافل والتضامن التي كانت أهم مميزات مجتمعنا في مرحلة من الزمن… عاش ماجد كنون شاهدا على وحشية نظام لم يعرف غير القسوة والجريمة ومات بسبب ذلك شهيدا، وعلى المجتمع أن ينصفه بعد مماته على الأقل عبر تسمية شارع رئيسي في الرميثة باسمه. عزاؤنا أن ماجد حاول قصارى جهده أن يكون إنسانا نافعا في مجتمع دمرته وحشية نظام لم يعرف أي قيمة إنسانية ومارس القسوة على كل من وقع في أسره…
وداعا ماجد ﮔـنون فقد عشت في الوقت الخاطئ والمكان الخاطئ.  
 
حميد الكفائي
20/8/2016