هل شوّه سعد الدين إبراهيم سمعة مصر حقا؟

جريدة (الزمان)-
2003-10-27

دعاني كاتب انكليزي صديق الشهر الماضي الي امسية اقيمت على شرف المفكر المصري سعد الدين ابرهيم الذي كان يزور لندن وكانت فرصة لي للتعرف عن قرب على ارائه في ما يجري من احداث في عالمنا العربي.

كانت المرة الأولي التي تعرفت فيها على أفكار سعد الدين إبراهيم عام 1987، عندما شارك في برنامج تلفزيوني بثته القناة الثالثة في التلفزيون البريطاني تحت عنوان (سيف الإسلام). وكان البرنامج من أولى محاولات الإعلام الغربي لاستكشاف ظاهرة التطرف الديني في العالم الإسلامي، وقد استعرض البرنامج الحركة الإسلامية في كل من مصر ولبنان.

كنت أعتقد أن سعد الدين إبراهيم يحلل بعيدا عن الواقع ويفسر انطلاقا من النظرية لا من حقيقة ما يجري على الأرض. وكان يرى أن هناك أسباباً عدة اجتمعت معا وساعدت على ظهور التطرف الإسلامي منها البطالة ونقص التعليم وغياب الأمل، وكل هذه الأسباب تدفع الشباب نحو التطرف لأنهم لا يرون أي بارقة أمل للخلاص من واقعهم المرير. بينما كنت أعزو التطرف إلي الدكتاتورية والقمع بالدرجة الأولي، وإن التيار الإسلامي قد دُفع دفعا إلى التطرف وحمل السلاح، بسبب سياسة القمع والإلغاء التي تمارسها الأنظمة العربية الحاكمة.

إلا أنني بعد مرور سنوات عدة وجدت نفسي اتفق مع تحليلاته بشكل عام، رغم أني مازلت أرى أن أنظمة الاستبداد والتسلط هي المسؤول الأول والأخير عن التطرف والإرهاب لأنها هي التي جردت الإنسان العربي من أي فسحة يعبر فيها عن رأيه، ويراجع بها نفسه، ويفكر بما يجري من حوله. لقد حاصَرَته في بلده ومنعت عنه المعلومات ومنعته حتى من التعليم ومتابعة الإعلام الحر، وهي من أبسط حقوقه، وأنفقت الأموال على توافه الأمور وملذات الحكام وأتباعهم والمطبلين لهم. في كل الأحوال فإنني انطلق من الواقع العراقي في ظل صدام حسين، الذي لا مثيل له في المنطقة كلها، من حيث الظلم والتعسف والقسوة ضد كل فئات شعبه.

غياب الديمقراطية
وحول غياب الديمقراطية في البلدان الاسلامية قال سعد الدين إنه (لا يمكن إلقاء اللوم علي الإسلام في ما يتعلق بغياب الديمقراطية، فالإسلام لا يعارض الديمقراطية بل يرحب بها، والدليل أن الديمقراطية معمول بها في إندونيسيا وماليزيا، وهما دولتان إسلاميتان، إلا أن معظم الدول الإسلامية هي من دول العالم الثالث الذي لا يمتلك أنظمة ديمقراطية متطورة، وهي متخلفة لأن التقدم لم يتأصل فيها بعد وليس لأنها دول إسلامية). كانت أجوبته مقنعة ومحط إعجاب الجميع. لقد أذهلتني قدرة هذا الرجل علي إيجاد الحلول التوفيقية المقنعة بين الشرق والغرب والتي لا تزعج هذا الطرف أو ذاك.
 
تحدث عن أوضاع العراق وعن المشاكل التي تواجهه حاليا وما أراه مناسبا من حلول، وتحسر على الوضع الذي وصل إليه البلد بسبب سياسات صدام اللامسؤولة. وقال إن هذا البلد فريد من نوعه في الشرق الأوسط وبين دول العالم الثالث فهو يمتلك كل مقومات التقدم من ثروات بشرية ومالية ومصادر طبيعية وتقدم علمي، وكل الذي يحتاجه هو حكومة معقولة تحترم تنوعه الثقافي والقومي والديني وتلتزم بالقوانين الدولية، وهذا ليس أمرا صعبا على أي حكومة تشعر بالحد الأدنى من المسؤولية. 
 
وبعد انتهاء الأمسية، فوجئت بأن هذا الرجل الذي بدا معافي تماما أثناء الجلوس، كان يسير متثاقلا ويتوكأ على عصا. عرضت عليه إيصاله إلى محل سكنه، وقد رحب بالفكرة، فساعدته في الوصول إلى السيارة، ثم انطلقنا إلى بيت ابنه جنوب غرب لندن. وفي الطريق، سألته عن سبب ضعفه خصوصا وأنه لم يتجاوز الثانية والستين من العمر، فقال (لقد أصبت بجلطة عندما كنت في السجن، ومنذ ذلك الوقت لم تتحسن حالتي الصحية). فتساءلت مع نفسي كيف يُسجن مثل هذا المفكر الذي تتمني دول العالم أن يكون بينها من أمثاله؟ كيف يُسجن وقد شارف على الستين؟ وبأية تهمة؟ (تشويه سمعة مصر)!! أمثال سعد الدين إبراهيم فخر لبلداننا فكيف نتهمهم بهذه التهمة الفظيعة! ثم ليس هناك أي فقرة في القانون الدولي تجيز حتى توجيه مثل هذه التهمة لأحد، لأنه لا يمكن أحدا أن يشوِّه سمعة بلد أو دين أو أمة ولا حتى عائلة، فتشويه السمعة يقتصر على الأشخاص فقط.
 
البلدان المتقدمة تكرم مبدعيها وتسهل مهماتهم وتمكنهم من تحقيق المزيد من الإنجازات أما نحن فنسجنهم أو نقتلهم أو نتهمهم بشتى التهم الباطلة، من المستفيد من ذلك؟ لا أحد يعلم، من المتضرر؟ بالتأكيد البلدان العربية وشعوبها، بل وحتى حكوماتها. وبعد أن استغرقت كثيرا في التفكير بأوضاع العالم العربي والإسلامي، تذكرت ما حصل للمفكرين والشعراء والأدباء والمبدعين في العراق. فمنهم من أذيب في أحواض التيزاب (الأسيد) ومنهم من دفن بملابسه بعد أن مات تحت التعذيب، بينما أجبر آخرون علي إضفاء الصفات الإلهية على صدام حسين:
(لولاك ما نبت الشجر لولاك ما طلع القمر….)! “أنت نبي والنبي لازم عربي”.
 
ولم تنفع آخرون محاولات استرضاء صدام، فتعرضوا للسجن والتعذيب والإعدام كالكاتب عزيز السيد جاسم الذي اختفى في مطلع التسعينات ثم أُعدم، وقد تضاربت الأنباء حول الأسباب التي دعت رأس النظام لإعدامه، خصوصا وأنه كان مقربا جدا من النظام لسنين عديدة وتولى مناصب إعلامية رفيعة. تذكرت بعد ذلك وصف سعد الدين إبراهيم لمصر بأنها (الليبرالية السويدية مقارنة بالعراق)، لما يتمتع به المفكرون والكتاب المصريون، وأفراد الشعب بشكل عام، من حرية نسبية.
ودعت سعد الدين وتمنيت له الشفاء العاجل والعمر المديد، فنحن حقا بحاجة إلي أمثاله في هذه المرحلة الحاسمة. للأسف لم نلتقط صورة تجمعنا، ولا شك أن الآخرين التقطوا معه صورا كثيرة.
حميد الكفائي

AZZAMAN NEWSPAPER — Issue 1646 — Date 27/10/2003