الزمان-19/8/2006، إيلاف 20/8/2006
قبل أيام التقيت بشخص عرفته أيام المعارضة لنظام صدام حسين فقد كان من “المعجبين” بكلماتي ومحاضراتي إذ كان يتابعني أينما ذهبت. أتذكر أنني عدت إلي منزلي في لندن ذات يوم عندما كان الوالد رحمه الله في زيارة إلي لندن وقد وجدت الرجل في منزلي يتحدث مع الوالد. واستغربت مجيئه إلي منزلي لزيارة والدي، إذ لم يكن بيني وبينه علاقة تستدعي تلك الزيارة لكنه جاء وبقي يتحدث مع الوالد لمدة طويلة وتحجج أنه يحب الشعر العراقي خصوصا الأنواع القديمة منه وأنه أراد أن يسمعها من القدماء أنفسهم.
 
كما زارني الرجل في مناسبة أخري أيضا دون أن أوجه له دعوة وأخذت شكوكي تزداد بأنه يعمل لصالح النظام السابق لكنني لم امتلك دليلا علي ذلك سوي مواقفه المعارضة لقوى المعارضة للنظام وانتقاداته لها، بالإضافة إلي أنني كنت متيقنا من أن عملاء النظام كانوا يتابعونني ولست قادرا علي منعهم من ذلك وهم الخبراء في هذا المجال والبارعون فيه. رأيت الرجل بالصدفة في مكان عام في لندن قبل أيام وقد سمعته يتحدث مع شخص آخر لكن حديثه كان من باب “إياك أعني واسمعي يا جارة” إذ كان يتحدث بصوت عال دون أن يكون هناك مبرر غير إسماع الآخرين وبالتأكيد كنت أنا المقصود بالإسماع.
 
قال الرجل “لقد عارضوا صدام وكانوا يقولون إنه ظالم وسارق وقاتل وطائفي ولكن أنظروا إلي ما يحصل الآن من قتل وتدمير للعراق باسم الديمقراطية… انظروا كيف عمّقوا الطائفية في البلاد… هؤلاء الذين يدّعون أنهم جاءوا لتحرير الشعب العراقي، والكلام لا يزال لهذا الرجل الساخط علي النظام الجديد، لكنهم الآن يسرقون الملايين من ثروات هذا الشعب ويهربون بها إلي الخارج… أنظروا إلي فلان الفلاني (وذكر اسم أحد الوزراء السابقين) الذي هرّب الملايين إلي الخارج. أنظروا إلي فلان (وسمى وزيرا آخر) فقد سرق من أموال وزارته كذا… هل سمعتم ماذا فعل وزير الـ….؟؟ إنه اشتري معدات وهمية بملايين الدولارات التي ذهبت إلى جيبه.. هل تعرفون فلان (وذكر اسم أحد قادة الأحزاب العراقية الجدد) الذي كان يعتاش على مساعدات الحكومة البريطانية؟؟ الآن يمتلك الملايين ويوزع آلاف الدولارات علي أتباعه وأصدقائه فمن أين جاء بهذه الأموال يا ترى؟؟ أليس من قوت الشعب العراقي”؟
 
ثم مضي إلى القول “لا يفقهون بأمور الحكم وكل همهم هو جمع الأموال وخدمة أنفسهم وعوائلهم ولهذا السبب تدهورت أمور البلاد إلى هذا الحد…. لقد تسببوا في تدمير العراق، والكلام لا يزال للرجل، ولم يكتفوا بذلك فها هم يريدون أن يكملوا جريمتهم بتقسيم العراق” ثم تابع صاحبنا قائلا، وقد وجه الكلام لي مباشرة هذه المرة: “عندما كنا نقول لهم إن الأمور ستسير نحو الأسوأ بعد صدام كانوا يتهموننا بالعمالة ولا ندري ما هو جوابهم الآن. هل ما زالوا يمتلكون الجرأة لقول الحقيقة؟” فصمتُّ ولم أرد خصوصا وأن المكان غير مناسب للحوار السياسي… عندئذ قال لي أحد الأصدقاء الذي كان يجلس إلي جانبي “ألا رددت على هذا المهرج”؟ فقلت له لن أرد لأن كثيرا مما قاله حقيقة رغم أنه أراد به باطلا.

لقد كنا نتصور أن صدام هو الشر كله وعندما يزول سوف تزول معه كل الشرور والعلل والمشاكل في العراق وأن من يأتي بعده سوف يكون بالضرورة أفضل منه، لكننا اكتشفنا أن هناك أكثر من صدام في العراق، وإن كان حكم صدام قد ولي إلي غير رجعة فإن “الصدامية” باقية معنا إلي حين علي ما يبدو. كنا نتصور أن الزعماء الذين عارضوا صدام عارضوه لأنهم حقا مؤمنون بالديمقراطية ولأن قلوبهم علي الشعب العراقي وضمائرهم معه، وليس هدفهم الاستحواذ علي الأموال وتوظيف الأقارب والأصدقاء والتأسيس لحكم استبدادي آخر.
 
وكنا نتصور أن من يأتي لحكم العراق بعد صدام سوف يرتقي إلي مستوي القادة العظام الذين خلفوا الدكتاتورين والطغاة كقادة فرنسا بعد الثورة الفرنسية أو قادة الهند بعد الثورة الهندية وقادة إيران بعد الثورة الإيرانية أو قادة مصر بعد الثورة المصرية أو قادة العراق بعد الثورة العراقية عام 1920 أو ثورة 14 تموز أو قادة جنوب أفريقيا بعد زوال النظام العنصري.
 
إلا أنه وللأسف الشديد لم يحصل ذلك. فليس لدينا اليوم من هم بمستوي غاندي أو نلسن مانديلا في التسامح واستيعاب الآخرين أو بمستوي ديغول أو تيتو في السياسة والحكم؟ وليس لدينا من هم بمستوي الخميني في الزهد في المال والسلطة أو بنزاهة عبد الكريم قاسم وجمال عبد الناصر؟؟ ورغم اختلافنا مع سياسات القادة المذكورين جميعا، لكن هل يستطيع أحد أن ينكر أنهم كانوا فوق الشبهات وأن همهم كان وطنيا وليس شخصيا؟
 
إن الوضع الذي آل إليه العراق قد صدمني يا أخي وآلمني، فلم أتوقع أن شخصيات أمضت حياتها في المعارضة للنظام الدكتاتوري يتحول همها فور دخولها في الحكم إلي هم شخصي بحت أو عائلي بحت أو حزبي بحت، ولم أتوقع أن يميز زعيم يسمي نفسه وطنيا بين الناس علي أساس المذهب أو المنطقة أو العرق. ولم أتوقع أن يقْدِم مسؤول تشرف بتحمل المسؤولية بعد “نضال” أو “جهاد” طويل ضد نظام فاسد ظالم علي سرقة أموال الشعب التي أؤتمن عليها. ولم أكن أتوقع أن يتحول عراقيون متحضرون من أبناء بغداد (منارة المجد التليد) أو الحلة (الفيحاء مدينة العلماء) أو البصرة (ثغر العراق الباسم) إلي قتلة وخطافين وذبّاحين لأبناء بلدهم لمجرد أنهم فقدوا امتيازات منحهم إياها صدام أو شعروا بالغبن في النظام الجديد أو لأنهم يريدون أن يحققوا مكاسب سياسية أو مادية هنا أو هناك.
 
ولم أكن أتوقع أن يقْدِم أشقاؤنا العرب وإخواننا المسلمون علي تمويل عمليات القتل والخطف في شوارعنا ومساجدنا ومتاجرنا وتبريرها دينيا.. ولم أكن أتوقع أن ينبري “مجاهدون” لتحرير العراق من أهله قبل أن يحرروا بلادهم من الاحتلال الأجنبي. ولم أكن أتوقع أن ينصب اهتمام من ادعوا أنهم تصدوا لخدمة الدين علي نيل المناصب الزائلة ليتركوا عملهم المقدس في الإصلاح والإرشاد. لم أكن أتوقع كل هذا يا أخي فكيف أرد علي رجل قد لا يكون مخلصا، لكنه كان محقا في مجمل ما قاله؟ في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟؟؟
 
أخيرا نهض الرجل وقال لمن كان يتحدث معهم “أنا ذاهب إلي محلي الذي اشتريته من مالي الذي جمعته من عرق جبيني ولم أسرقه من قوت الشعب العراقي…”! عندئذ قلت لصديقي: “الآن كذب الرجل كذبة صريحة” فهو الآخر أثري علي حساب الشعب العراقي عندما استغل ضعف صدام أمام شعبه واستفاد من الفرص التي قدمها للمتعاونين معه وقد جمع ماله من تلك الفرص المشبوهة، ولم يعرق جبينه في جمعها فأمثاله لا يعرق لهم جبين..لا حياء ولا تعبا.

Azzaman International Newspaper – Issue 2481 – Date 19/8/2006