مستقبل العراق: دولة عصرية أم مجموعة طوئف متهادنة 

جريدة الزمان -15/1/2003

لعل أهم نقطة اتفق عليها المعارضون العراقيون في مؤتمرهم الأخير هي التسليم بأهمية الدور الأمريكي في الإطاحة بنظام صدام حسين وإقامة البديل الديمقراطي في العراق. وبرغم إعلان الكثيرين بأن الشعب العراقي هو الذي سيقوم بعملية التغيير، إلا أن الجميع يدرك حقيقة مهمة وهي أن الشعب العراقي مغلوب على أمره ولن يستطيع الاضطلاع بمهمة شبه مستحيلة من هذا النوع. فالنظام العراقي يمتلك أسلحة فتاكة لن يتورع عن استخدامها ضد جماهير الشعب وبشكل عشوائي كما حصل في مناسبات سابقة في حلبجة والدجيل وجيزان الجول والأهوار وحملة الأنفال وانتفاضة آذار عام 1991، التي راح ضحيتها مئات الألوف من المواطنين العراقيين الأبرياء. وكل عراقي يدرك هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، ومن هنا جاءت مشروعية الاستعانة بالقوى الخارجية سواء كانت إيران، أم سوريا في السابق، أم الولايات المتحدة حاليا.
 
وبرغم أن هناك قوى في المعارضة داخل المؤتمر الأخير أو خارجه، لا تزال تتبني خطابا ديماغوجيا (بأن مهمة التغيير يجب أن يضطلع بها الشعب العراقي وحده) إلا أنها تعترف في الوقت نفسه بأن الشعب لا يستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة من دون مساعدة من قوى أخرى، بل هو بحاجة إلى الدعم الخارجي الفعال، خصوصا وأن هذا الشعب لم ينس بعد المذابح التي ارتكبها رموز النظام الحالي بحقه عام 1991 على مرأى ومسمع من العالم كله. 

لذلك فإن الشعب العراقي لن يُخدع مرة أخرى، ولن ينهض ضد النظام الحاكم من دون تطمينات مؤكدة وإشارات واضحة بأن هناك قوى خارجية قوية ستأتي لنجدته وفي الوقت المناسب لتخلصه من قيوده إلي الأبد.

وكما كان التدخل الخارجي للإطاحة بنظام هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا وعيدي أمين في أوغندا وبول بوت في كمبوديا، مبررا من النواحي الأخلاقية والإنسانية والاستراتيجية، فإن التدخل الخارجي للإطاحة بصدام حسين مبرر أيضا. ومن هنا فإن إصرار بعض أطراف أو شخصيات المعارضة العراقية على إنكار الدور الأمريكي ليس في صالحها على الإطلاق لأنه أولا يطعن في صدقية خطابها السياسي عراقيا وعربيا ودوليا، وثانيا فإنه يضلل بعض العراقيين ويجعلهم لا يتفاعلون مع العامل الدولي الذي أضحى عاملا أساسيا في عملية التغيير.

لقد سمعت أحد رموز المعارضة العراقية يدافع في إحدى الفضائيات العربية عن الدور الأمريكي قائلا (لست قادرا على منع الولايات المتحدة من إسقاط صدام حسين)! ولا أدري إن كان أخونا قادرا فهل سيمنع سقوط صدام حسين، أم أنه يسعى لإسقاطه بكل السبل الممكنة؟ مثل هذه الإجابات تسخِّف دور المعارضة وتصورها وكأنها فعلا قوة هامشية يستخدمها الأجانب لتبرير ضرب العراق، وليست قوة تمثل غالبية الشعب العراقي وتتحالف مع قوى أخرى تتفق معها في الأهداف من أجل مصلحة العراق. مصارحة الجماهير العراقية قوة للمعارضة وليس ضعفا، خصوصا وأن معظم العراقيين لا يعارضون العامل الدولي بل يرحبون به.

الخلاص من الحريق

فالشعب العراقي الذي يعاني من المآسي التي ألحقها به النظام الحالي من قمع وحروب وعقوبات وعزلة دولية، من دون أدني مبرر، هو كمن تحاصره النيران في بيت يحترق، يرحب بمن يساعده على الخلاص من الحريق. الإنقاذ من الحريق يأتي أولا وأخيرا. نعم هذه هي الحقيقة التي أوصلنا إليها صدام حسين، والتي لا يفهمها إخواننا العرب للأسف الشديد. وبينما يدرك العراقيون تماما أن فهم نظام صدام حسين يصعب على غيرهم، فإنهم لا يطلبون من إخوانهم العرب سوى الاستماع إليهم كي يعرفوا الآن حجم الظلم الواقع عليهم، فمن غير المفيد أن يستبينوا النصح ضحى الغد.

العراقيون يدركون تماما الظروف المحيطة ببلدهم والأخطار التي تواجهه وطبيعة النظام الذي يحكمه، وهم جديرون بالمصارحة من قبل المتصدين لقيادتهم، وهذا هو أدنى ما يطمحون إليه. لقد يئس الجميع ومنذ زمن بعيد من إصلاح النظام القائم الذي أصابه الغرور واعتقدَ أن بإمكانه أن يفعل ما يشاء بالشعب العراقي من دون تدخل دولي، واعتمد بدلا من الإقناع على القمع والقتل والحروب وتغييب الرأي الآخر، وأغرق البلاد في مشاكل لن تستطيع الخروج منها بسهولة. لذلك فإن الواجب الوطني يدعو كل العراقيين إلى المساهمة في عمل المعارضة العراقية والعمل على إصلاحها وتقويمها قبل أن تقع هي الأخرى في مشاكل عميقة يصعب حلها لاحقا.

إن مستقبل العراق يعتمد على صلاح المعارضة وتبنيها للمواقف الصحيحة التي تؤسس لمستقبل ديمقراطي تعددي يعتمد على احترام الإنسان والسعي لخدمته، وليس احترام السياسي المتصدي والحفاظ على كرامته ومستقبله. يجب أن يكون السياسي مستعدا لأن يضحي بمستقبله السياسي في سبيل المصلحة العليا وهذا الاستعداد للتضحية هو الضامن الوحيد للاستمرار في العمل السياسي في البلدان الديمقراطية. للأسف الشديد فإن بعض السياسيين في المعارضة العراقية مصممون على التصدي للعمل السياسي على الرغم من فشلهم وصعوبة بقائهم في هذا الحقل أما لانعدام كفاءتهم أو لعدم اقتناع الناس بأطروحاتهم السياسية، أو لأن العراقيين لا يثقون بهم في الوقت الحاضر نتيجة لعملهم السابق، الطوعي أو الاضطراري، مع نظام صدام حسين. إن كان هؤلاء وطنيين فعلا فبإمكانهم أن يعملوا لصالح المعارضة والبلد من دون أن يسعوا لنيل المناصب، وعندها سيكسبون رضا الناس بل إعجابهم، وقد يكون لهم مستقبل سياسي بعد حين.

إن التنوع السياسي والثقافي والقومي الذي يتميز به الشعب العراقي هو طبيعة متأصلة لهذا الشعب منذ قديم الزمان، وكل من يحاول أن يتجاهل هذا التنوع يرتكب خطأ فادحا، وما أوصل العراق إلى المنحدر الخطير الذي هو فيه الآن إلا هذا التجاهل لطبيعة الشعب العراقي. وهذا التجاهل هو الذي دفع العراقيين إلى معارضة النظام وقاد إلى المواجهة الحالية. ومن هنا فإن أول ما تقوم به المعارضة يجب أن يكون الحرص على احترام هذا التنوع، ليس فقط في اختيار أشخاص من هذه الفئة أو ذلك التيار، بل في اختيار الأشخاص المناسبين من التيارات أو الفئات المختلفة، أولا، وثانيا من خلال تفعيل الديمقراطية واحترام الرأي الآخر.

لكن الذي حصل في المؤتمر الأخير هو أن المؤتمرين لم يُستشاروا في معظم القرارات التي اتخذت خصوصا اختيار أعضاء لجنة التنسيق والمتابعة، التي كنا نأمل أن تكون منتخبة حتى تعكس حقا تنوع الآراء والتيارات السياسية، وحتى يأخذ أعضاؤها بنظر الاعتبار آراء القواعد الشعبية التي يمثلونها. لكنها للأسف الشديد لم تنتخب بل اختيرت (بالتراضي) بين الأحزاب، وبغياب الديمقراطية غابت شخصيات مهمة عن هذه اللجنة، خصوصا من المستقلين. إنني متأكد من أن الكثيرين من أعضاء اللجنة الحاليين كانوا سيفوزون لو أجريت الانتخابات بين المؤتمرين، فبينهم رموز سياسية ودينية وثقافية معروفة بتاريخها النضالي ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها. لكن آخرين كانوا سيفوزون أيضا، حسبما يتمتعون به من تاريخ ووزن في ساحة المعارضة العراقية.

وإذا كان مفهوما أن هناك بعض الإشكاليات في أن يكون كل أعضاء اللجنة منتخبين، فما السبب ألا يخضع معظم الأعضاء للانتخاب من قبل المؤتمرين، مع الاحتفاظ بعدد معين من المقاعد لأعضاء تعينهم الأحزاب؟ لقد نقل لي مشاركون في المؤتمر أن هناك اجتماعات مغلقة كثيرة بين زعماء الأحزاب اتخذت خلالها معظم القرارات، بينما تُرك المؤتمِرون في معزل عما يجري.

كان بالإمكان تجنب هذا الخطأ الذي سيقود من دون شك إلى أخطاء أخرى في المستقبل، إذ لن ينتهي الجدل بخصوص شرعية اللجنة وأهلية أو صلاحية أعضائها. وإن أُضطِر في المستقبل لزيادة العدد وتطعيم اللجنة بشخصيات ذات كفاءة وأهلية متفق عليها، فإن الشخصيات الأخرى المثيرة للجدل لن تنسجم مع التشكيلة الجديدة، وإن أجريت انتخابات لحسم الأمر، ولم يفز فيها المثيرون للجدل فإنهم سيطعنون بنزاهة هذه الانتخابات، وهلم جرا. لقد كان اختيار شخصيات لم تدع أصلا للمؤتمر خطأ كبيرا ارتكب بحق هذا المؤتمر الذي كنا نتطلع إلي نتائجه لتكون مثالا ديمقراطيا يعيد إلينا الثقة بالسياسة والسياسيين، كما كان تجاوز الأحزاب للمؤتمرين خطأ أكبر يضاف إلى سلسلة الأخطاء التي كان يمكن تجنبها بسهولة.

استغراق في السلبيات

وحتى لا نستغرق في السلبيات، هناك كثير من الإيجابيات في هذا المؤتمر، منها إجماع العراقيين ومن كل القوميات والطوائف على ضرورة التخلص من صدام بمساعدة خارجية، وإقرارهم بحقيقة تقبل الآخر المختلف والعمل معه ليس على مضض كما كان سابقا بل بإقبال ورضا كاملين. كذلك أجمع العراقيون على قيام دولة علمانية ديمقراطية يشارك فيها الجميع وتحترم حقوق الجميع، فلم يعد هناك من يدعو إلى قيام دولة حسب أيديولوجية معينة، إذ برز إدراك بين العراقيين بأن عصر الأيديولوجيات قد انتهى وجاء عصر الواقعية وتقبل الآخر.

الدولة العلمانية محايدة بطبيعتها، تسمح للجميع أن ينشطوا في المجالات الدينية والفكرية والسياسية المختلفة بما لا تسمح به الدولة الأيديولوجية، بالإضافة إلى أنها مقبولة من قبل الجميع.

http://www.azzaman.com/azzaman/ftp/articles/2003/01/01-14/788.htm