الهلع وحده لن يدرأ خطر انهيار سد الموصل

الأخطار التي يشكلها احتمال انهيار سد الموصل ليست جديدة بل هي معروفة على المستوى الرسمي والعلمي حتى قبل إنشاء السد مطلع الثمانينيات، واكتماله عام 1984. فقد حذرت دراسة جدوى من بناء السد بسبب عدم ملاءمة طبيعة الأرض في المنطقة لمثل هذا المشروع وتوقف إنشاؤه حينها بموجب تلك الدراسة. ويأتي خطر انهيار السد من طبيعة الأرض التي أنشأ عليها وهي تربة جبسية هشة مكونة من الحجر الجيري القابل للذوبان في الماء. وبسبب هذه الهشاشة فإنه لا يمكن إنشاء دعامات اسمنتية لإسناد السد على هذا النوع من التربة. وكانت هذه المشكلة تحديدا أحد الأسباب التي أخرت إقامة السد الذي اقترحه مجلس الإعمار العراقي في خمسينات القرن الماضي، بعد أن نصحت دراسة الجدوى المشار إليها بعدم إنشائه وذلك لهشاشة الارض في المنطقة. 

إلا أن المهندسين العراقيين قد قرروا المضي في بناء السد بعد أن اطمأنوا، على ما يبدو، من أن مشكلة احتمال الانهيار قابلة للعلاج عبر تشكيل فريق صيانة متخصص يعمل على مدار الساعة لمراقبة السد وحشو الفجوات والفراغات التي تنشأ بالإسمنت فور حصولها من أجل المحافظة على تماسك السد ومنع انهياره الذي سيخلف خسائر بشرية ومادية وخيمة على مدينة الموصل ويهدد سكانها بالغرق أو التشرد إن تمكنوا من الإفلات من المياه المتدفقة من السد الذي تبلغ طاقته التخزينية 11 مليار متر مكعب.

هناك عدة أهداف من بناء سد الموصل أولها هو تخزين المياه الزائدة في بعض الفصول واستخدامها عند الحاجة إليها في فصول أخرى، وثانيها هو حماية المناطق الواقعة جنوب الموصل من فيضان نهر دجلة الذي كان يفيض في فصل الربيع كل عام تقريبا ويترك دماراً وأضراراً كبيرة على المزارع والأهالي والمدن القريبة، وكان الفيضان يستدعي تدخل الفرق الهندسية المتخصصة في الجيش العراقي لصد المياه وحماية المدن والمجمعات السكانية من الغرق. وبالإضافة إلى الهدفين أعلاه، فقد استخدم السد لتوليد الطاقة الكهرومائية لسد حاجة المنطقة منها.

إلا أن تناقص مياه نهر دجلة الداخلة إلى العراق، بسبب تزايد الاستخدام في تركيا، وتحويل إيران مجاري روافد الأنهر الآتية من أراضيها، وبالتحديد نهر ديالى الذي يغذيه نهر الوند، واستغلال تلك المياه داخل الأراضي الإيرانية، قد أدى إلى تناقص خطر الفيضان بمرور الزمن. وسوف تتناقص مناسيب مياه دجلة كثيرا عند اكتمال سد أليسو في تركيا والذي تأخر اكتماله بسبب نقص التمويل الدولي له إثر الاحتجاجات على إنشائه بسبب الأضرار التي سيلحقها ببلدة حسن كيف التاريخية. ومع تقلص الاعتماد على قطاع الزراعة بسبب اعتماد الاقتصاد العراقي الكامل على إيرادات النفط، لم يعد هناك أهمية كبرى لبقاء السد سوى من أجل توليد الطاقة الكهرومائية، ولكن حتى هذه الفائدة تناقصت كثيرا في الآونة الأخيرة لأسباب كثيرة، ما يعني أن بقاء سد الموصل لم يعد بالأهمية التي كانها سابقا، لكنه ما زال مفيدا دون شك لو لم ترافق بقاءه الأخطار التي تحدثنا عنها.

لقد تمكن الفريق الهندسي العراقي بجدارة ومهارة مثيرة للإعجاب من المحافظة على تماسك السد حتى الآن عبر أعمال الصيانة المستمرة وملء الفراغات والتجاويف الناشئة بالسرعة المطلوبة. وحسب الخبراء، فإنه كان بالإمكان أن يستمر هذا الوضع دون خطر يذكر على المدينة وسكانها لو كانت الظروف طبيعية، إلا أن سيطرة تنظيم (داعش) الإرهابي على المدينة في العاشر من حزيران 2014، واستمرار سيطرته حتى الآن قد أثار الشكوك عند كثيرين باحتمال انهيار السد، أو قيام تنظيم داعش بتخريبه عندما يشعر بالهزيمة. وقد تزايد هذا الخطر مع قرب وقوع المواجهة الحتمية بين مسلحي التنظيم والقوات العراقية التي يدعمها التحالف  الدولي ضد داعش، ما أعاد الاهتمام الشعبي والرسمي والدولي لأخطار انهيار سد الموصل، أما بسبب نقص الصيانة أو أن يعمد التنظيم لاستخدامه كورقة ضغط في حربه مع الحكومة العراقية والتحالف الدولي عبر التهديد بتخريب السد وإغراق مدينة الموصل بسكانها، وهذا هو المأزق الحقيقي حاليا.

ليس سرا أن المواجهة مع تنظيم داعش ستحصل خلال الأسابيع والأشهر المقبلة ومن المتوقع أن تحصل قبل الصيف، أي مع موسم ذوبان الثلوج في منابع نهر دجلة وتزايد مناسيب المياه المتدفقة إلى النهر وامتلاء خزان السد بالكامل، ما يجعل خطر انهياره محتملا ومدمرا. ويعتقد خبراء أن انهيار السد، سواء بسبب الإهمال أو نقص أعمال الصيانة أو التخريب المتعمد، سوف يطلق المياه المخزونة فيه، والتي تقترب من السعة التخزينية الكاملة، خصوصا في موسم الربيع، وأن هذه المياه ستغمر معظم أجزاء مدينة الموصل خلال ساعات، بل هناك من يعتقد بأنها، خصوصا إذا حدث الانهيار في الربيع، قد تؤثر حتى على بغداد. وعلى رغم أن خطر هطول المزيد من الأمطار قد تناقص مع قرب انتهاء فصل الشتاء، فإن مناسيب المياه في نهر دجلة تزداد في العادة خلال فصلي الشتاء بسبب هطول الأمطار، والربيع بسبب ذوبان الثلوج.

لقد حذر خبراء أميركيون في عام 2003 من خطر انهيار السد ونتيجة لهذا الخطر الذي استشعره الأمريكيون، فقد أقدم الجيش الأمريكي على نقل قواته بعيدا عن السد بكلفة قُدِّرت حينها بملايين الدولارات، ما يعني أن خطر انهيار السد كان محتملا حتى في تلك الفترة ولو لم يكن كذلك لما أنفق الأمريكيون تلك الأموال على نقل جنودهم ومعدّاتهم. وفي عام 2006  حذر تقرير عسكري أميركي من انهيار السد ووصفه بأنه «أخطر سد في العالم»! وفي 30/10/2007 أعلن المفتش العام الأميركي في تقريره، إن سد الموصل «يمكن أن ينهار في أي لحظة». وفي عام 2011، وحينها كان الجميع تقريبا قد نسوا خطر السد، حذر كاتب السطور من خطر انهيار سد الموصل وغرق سكانها في مقال في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 11 أوغسطس/آب 2011. فإن كان السد يشكل خطرا حتى في تلك الفترة التي كانت الحكومة العراقية مسؤولة مباشرة عنه والقوات الأمريكية تعسكر بالقرب منه وتدرك خطره، فما بالك به اليوم في ظل الإهمال وشحة الأموال وسيطرة الجماعات الإرهابية عليه والتي ستساوم العراق ودول العالم بالتلويح بتخريبه وإحداث كارثة إنسانية بمقاييس لا يستطيع أحد أن يتنبأ بها.

بقاء السد على وضعه الحالي ليس حلا بسبب الأخطار التي يمثلها وكذلك بسبب الكلفة العالية لتحشية الفجوات والفراغات بالإسمنت والبنتونايت. وحسب الخبير المائي، الدكتور حسن الجنابي، فإن السد يحتاج إلى أكثر من عشرين الف طن سنويا من الإسمنت، وإلى كميات غير محددة من البنتونايت ومن أجل أن يتقلص خطر انهياره فإنه يجب أن يبقى دائما دون السعة التشغيلية الكاملة له، البالغة 330 مترا، بأحد عشر مترا، وهذا من شأنه أن يقلص من وظائف السد الإروائية وقدرته على توليد الطاقة الكهرومائية. ويضيف الدكتور الجنابي إلى أن إنشاء سد آخر في منطقة بادوش شمالي الموصل سيصبح ضروريا من أجل تقليل مخاطر غرق مدينة الموصل في حالة انهيار السد، لكنه يستدرك قائلا إنه “حتى مشروع بناء سد بادوش سيكون مغامرة في ظل التهديدات الإرهابية إضافة إلى كلفة إنجازه العالية”.

ووفقا لتقديرات الدكتور الجنابي فإن بالإمكان تقليل خطر انهيار السد ببناء جدار اسمنتي قاطع تحته لمنع تسرب المياه، لكن كلفة بناء مثل هذا الجدار باهظة وتقدر بملياري دولار وأن بناءه سيستغرق سنتين ويتطلب إفراغ السد من خزينه المائي الذي من شأنه أن يؤثر على انتاج الطاقة الكهرومائية وكذلك على المشاريع الإروائية في المنطقة. بالإضافة إلى كل ذلك فإن هناك حاجة إلى أن تضطلع بإنجاز هذا المشروع العملاق شركة عالمية متمرسة لأن إنجازه يفوق القدرات الهندسية العراقية. ومن المستبعد أن تقتنع الشركات العالمية بالعمل في المنطقة في ظل الأخطار الأمنية الحالية، إلا إذا كان هناك إدراك عالمي بالخطر المحدق بحياة مليوني إنسان في مدينة الموصل وتضافرت الجهود الدولية لإزالة هذا الخطر على وجه السرعة. 

لقد قامت الحكومة العراقية أخيرا بإحالة صيانة سد الموصل الى شركة ايطالية متخصصة، هي شركة تريفي، بينما أعلن وزير المالية العراقي هوشيار زيباري أن الحكومة خصصت مئتي مليون دولار لمعالجة أخطار سد الموصل وليس معروفا إن كان هذا المبلغ كافيا لإنجاز المطلوب أم لا، ولا كيفية إنفاق المبلغ وهل سيخصص لاستمرار أعمال الصيانة الحالية أم لطريقة جديدة لدرء مخاطر الفيضان في حالة انهياره. إن كان المقصود هو بناء الجدار القاطع فإن مئتي مليون دولار تساوي 10% فقط من كلفته الكلية الباهظة والتي لا تبرر إبقاء السد لأن الجدار القاطع لن يلغي الخطر كاملا، خصوصا وأن هشاشة الأرض في تلك المنطقة قد لا تسمح بوجود بناء راسخ قوي لفترة طويلة، ما يعني أن الخطر سيبقى قائما لكنه سيتقلص ويصبح بعيد الاحتمال. أما كلفة بناء الجدار فيمكن استخدامها لتطوير المنطقة وبناء محطات أمينة لتوليد الطاقة ومشاريع إروائية عملية تعوض السكان عن منافع السد الحالية.

 يبدو أنه لا يوجد هناك حل عملي ومعقول واقتصادي لمشكلة سد الموصل سوى إلغائه كليا، وهذا الحل هو الآخر لا يأتي دون تكاليف لأنه سيؤثر على حياة ملايين الناس الذين يقطنون في حوض دجلة، خصوصا الفلاحين والمزارعين وأصحاب الماشية، بل وحتى سكان المدن، ويُحدِث نقصا كبيرا في الطاقة الكهربائية التي يوفرها السد حاليا. إلا أن إلغاء السد سيحقق هدفا واحدا في غاية الأهمية ألا وهو إزالة شبح الغرق عن مدينة الموصل وضواحيها واحتمال موت وتشرد ما لا يقل عن مليوني إنسان. لكن عملية إلغاء السد هي الأخرى ليست سهلة خصوصا في الوقت الحاضر حيث يمتلئ بالمياه. عملية إفراغ السد تستغرق وقتا طويلا وتحتاج إلى قنوات لتصريف المياه المخزونة فيه بشكل انسيابي وإلا فإن المياه ستحدث فيضانا وأضرارا كبيرة إن أطلقت خلال فترة قصيرة.   

نعم هناك إضرار تلحق بالعراق، وبالموصل والمناطق المحيطة بها تحديدا، من جراء إلغاء السد لكن منفعة حفظ حياة ملايين العراقيين وتجنب حدوث كارثة إنسانية على مستوى عالمي، بل قد تكون الاولى من نوعها في العالم، يتطلب التضحية بالمنافع الأخرى التي يمكن تعويضها بطرق أخرى. وحسب القاعدة الفقهية فإن درء المفاسد أولى من تحقيق المنافع. من الواضح أن إيجاد حل ناجع وعاجل لمنع انهيار السد يفوق إمكانيات العراق ومن هنا فإنه يجب أن تعلن الحكومة العراقية للعالم عن عجزها عن إيجاد حل للمشكلة كي تلقي بمسؤولية إنقاذ الموصل وسكانها على المجتمع الدولي. يجب على العراق الآن أن يعلن الموصل منطقة كوارث وأن يطلب من مجلس الأمن إيجاد حل عاجل لهذه الكارثة المحتملة، وفي خلاف ذلك فإن الكارثة محتملة الوقوع خصوصا مع قرب المواجهة بين الجيش العراقي وتنظيم داعش. لقد تجدد الاهتمام بسد الموصل أخيرا وتحول إلى هلع حقيقي في العراق، لكن الهلع وحده لن يحل المشكلة، على رغم أن هناك ما يبرره. هناك الآن مسؤولية كبرى تقع على عاتق الحكومة العراقية والمجتمع الدولي بأكمله لإنقاذ حياة ملوني إنسان في الموصل مهددين بالغرق والتشرد.    

  حميد الكفائي