وطالما تعرض زعيم الحزب الأسبق، مايكل فوت، للانتقادات من الصحافة والسياسيين على حد سواء لإصراره على ارتداء أبسط الملابس حتي في المناسبات الوطنية التي تجمع رئيس الوزراء إلى جانب زعيم المعارضة في الاحتفالات العامة، والتي يحرص الكثيرون على ارتداء الملابس الأنيقة التي تليق بالمناسبة. كما اعتاد فوت وباقي أعضاء الحزب وقادته على استخدام المواصلات العامة من حافلات وقطارات، أسوة بالشعب ودعما للمواصلات العامة وسعيا لتغيير التفكير الطبقي السائد سابقا في بريطانيا. ولا أنسي ذلك اليوم الممطر في مطلع الثمانينيات عندما كنت أقود سيارتي المتواضعة في حي (كامدن تاون) الشعبي شمالي العاصمة لندن، لأرى مايكل فوت يقف في موقف الحافلات ينتظر قدوم حافلة لتنقله إلى مكان ما، وقد حمل علي كتفه حقيبة سفر قديمة. فكرت أن أقف وأنقله إلي حيث يريد، لكنني تذكرت أن هناك الآلاف من الناس التي تعرفه والمستعدة لخدمته وتقديم العون له، إلا أنه يصر على ذلك رغبة منه في ممارسة حياته كمواطن عادي.الدفاع عن النظام العراقي
أتذكر مرة أن صحفيا سأله عن سبب إقامته في فندق فاخر علي حساب جمعية (الحرب علي الرغبات)، فرد عليه غالواي بطريقة أترك للقارئ إيجاد وصف لها: (لقد أقمتُ في ذلك الفندق ومارستُ فيه الجنس أيضا!). لهذه الأسباب، ولأني أربأ بنفسي أن أنحدر إلي هذا المستوى، فقد رأيت أن مشاركتي في حوار معه تعني أنني سألتزم الموضوعية كعادتي في وقت يتحامل هو علي شخصيا وقد أكون في موقف لا تحمد عقباه في نهاية المطاف. إلا أنني وافقت كي أبين لطلاب كامبريدج ما لا يعرفونه عن مواقف غالواي المؤيدة لصدام حسين والمعادية لتطلعات الشعب العراقي في الحرية والديمقراطية. لكن المفاجأة جاءتني قبل يوم من المناظرة، وهي أن غالواي رفض أن يتحاور معي باعتباري (دمية أمريكية)، واشترط علي المنتدى أن يتحدث منفردا دون أن يكون هناك من يعارضه. لكن المنتدى رفض هذا الشرط كما رفض التبرير وقال له (إننا نريد حوارا لا محاضرة).
اقترح المنتدى حلا وسطا للمأزق وهو أن يتحدث غالواي أولا دون أن يقاطعه أحد، ثم أتحدث أنا بعد ذلك دون أن يرد عليَّ غالواي، ثم يُفتح باب الأسئلة للطلاب لتوجيه أسئلتهم إلى من يشاؤون من الضيفين اللذين بإمكانهما أن ينسحبا في أي وقت يريانه مناسبا، وبذلك لا يشترك الضيفان في مناظرة أو حوار مباشر من أي نوع. وافق غالواي على هذا الحل ووافقت أنا عليه أيضا. ثم جاءت المفاجأة الثانية قبل ثلاث ساعات من موعد بدء المناظرة، عندما اعتذر غالواي عن المجيء كليا متذرعا بأن الوقت لم يعد مناسبا للمناظرات بل للاحتجاجات الشعبية، ومكررا اتهامه السابق لي على الرغم من أنه لا يعرفني.
ليس لدي شك بأن غالواي كان يخشى الفضيحة أمام طلاب كامبريدج والتي كانت ستظهر للجميع أيضا. لابد وأنه استنتج بأنني أتابع القضية العراقية عن كثب واعرف عدد رحلاته إلي بغداد والخدمات (الجليلة) التي يقدمها لدكتاتور منبوذ عراقيا وعربيا ودوليا، ويعرف أيضا أنه لم يهتم يوما بالسياسة المحلية البريطانية التي انتخب من أجل متابعتها. السؤال الذي حيرني لفترة من الزمن هو لماذا انتمى غالواي أصلا إلي حزب العمال البريطاني وليس إلى أحزاب أخرى ربما أكثر ملاءمة لشخصيته من هذا الحزب الأيديولوجي الذي لا يشاركه مبادئه؟ بعد متابعة وتمحيص استنتجت أن الحزب الوحيد الذي يمكن أن يفوز في الانتخابات في منطقة غالواي الفقيرة هو حزب العمال ومن هنا فإنه لم يكن أمام هذا الشاب الطموح خيار سوي الانتماء إلى الحزب الذي يحقق له طموحه في الشهرة والمال والسلطة. ومن هنا فإن انتماءه إلى حزب العمال ربما جاء لأسباب عملية وليس مبدئية.
أعتقد أن غالواي حسم أمره منذ أمد بعيد بأنه لن يحصل على منصب وزاري لأسباب كثيرة، ومن هنا فقد كانت توجهاته نحو أمور أخرى. توقعاتي أن غالواي لن يبقي طويلا في حزب العمال، والسبب هو أنه حاد كثيرا عن خط الحزب وهاجم زعيمه توني بلير واتهمه بأنه (كذوب) وهو عمل لم يفعله أحد من قبل في أي حزب من الأحزاب البريطانية، إذ عادة ما يحترم الأعضاء، خصوصا النواب، زعيم الحزب ولا يشيرون إليه بعبارات بذيئة أو تهكمية. بالإضافة إلي ذلك فإن تهمة غالواي بعيدة كل البعد عن شخصية توني بلير المعروف بأخلاقه الرفيعة وسلوكه المستقيم وتدينه. وقد يلجأ فرع الحزب في منطقة (Kelvin) التي يمثلها غالواي حاليا، إلى اختيار شخص يهتم بالقضايا المحلية وليس شخصا يمكث معظم وقته خارج البلاد ويهتم بأمور لا تهم الناخب العادي. يذكر أن فرع الحزب في المنطقة قد صوت بحجب الثقة عن غالواي بعد انتخابه مباشرة. يبدو أنه مهما كانت القوانين صارمة فإن هناك من يستطيع أن يتجاوز عليها من خلال معرفته بتفاصيلها، ومهما كان الشخص سيئا فإن شهرته وماله قد ينفعانه في الانتخابات لأن الناخبين عادة ما يصوتون لمن يعرفون وليس لمن يجهلون، وقد لا تكون معرفتهم كافية بالشخص كي يصوتوا ضده لأنهم لا يمكثون كثيرا في التمحيص والتدقيق.
لقد انتفع غالواي من حالة “اللاأبالية” في الانتخابات كي يعود نائبا عن حزب العمال لفترات متعاقبة. وأحسب أنه حتى فرع الحزب في المنطقة يخشى أن يحاسبه، ويرى أنه (ما زال الناس يصوتون لغالواي ولا ينتبهون إلي سيئاته فلماذا يقصيه الحزب ليأتِ بشخص جديد ضعيف يحتاج إلى وقت طويل كي يتحصن بالشهرة ضد الهزيمة الانتخابية؟). نعم، هم الأحزاب الأول عند ترشيح الأفراد هو مقدرتهم على الفوز بأصوات الناخبين، ولا بد أنهم يرون أن فوز غالواي مضمون في منطقة يتزايد فيها التأييد لحزب الديمقراطيين الأحرار والحزب القومي الإسكتلندي. إلا أن البيوت الزجاجية البراقة تبقى ضعيفة، وجمالها لن يعوض عن عناصر القوة المفقودة فيها، فالجمال وحده لا يحميها من الكسر في ما لو تعرضت لضربات قوية. فحذارِ يا سيد غالواي من ضرب الناس بالحجارة.
حميد الكفائي
* التقيت بجورج غالاوي بعد كتابة هذا المقال في برامج تلفزيونية في بريطانيا ودعاني للمشاركة في برنامج حواري يقدمه عبر محطة (برس تي في) الإيرانية لكنني رفضت.
