تهييج الشارع في كل صغيرة وكبيرة ليس في مصلحة أحد

مجلة الهدى-كانون الأول-٢٠١٥

عودنا سياسيونا على تهييج الشارع في كل مرة يحصل فيها خلاف فيما بينهم أو مع دولة أجنبية. نعم الشارع هو الحَكَم في القضايا السياسية ولكن لماذا نلجأ إلى الشارع في القضايا الدولية؟ هل من المعقول أن تُقرَّر السياسات الخارجية عبر الهتافات الحماسية و(الهوسات) في ساحة التحرير؟ ألا يكفي الشارع الاهتمام بالقضايا الملحة كالخدمات والسكن والرواتب والوظائف والصحة والتعليم وغيرها. 

من حق المواطنين أن يعرفوا ما يجري في كل مجال، بما في ذلك العلاقات الخارجية، لكن الحكومة وحدها هي التي تقرر القضايا الخارجية، بما فيها الدفاع، باعتبارها الراعي الأول لمصالح الشعب والمكلف بذلك من قبل ممثليه في البرلمان، وأن من واجب القوى السياسية المشاركة في الحكومة أن تساندها في موقفها حتى وإن كان لديها رأي آخر في هذه المسألة الخارجية أو تلك، وأن من حقها بل من واجبها أن تطرحه وتعبر عنه علنا .

مشكلة أحزابنا السياسية أنها تفكر كمنظومات مستقلة تماما، لديها سياساتها وتحالفاتها الخارجية وخططها الامنية والاقتصادية المستقلة تماما عن الحكومة والدولة العراقية، لذلك فهي تلجأ إلى تحشيد مواقف مؤيديها إلى جانبها كي لا تخسرهم لغيرها. مثل هذه السياسات لا تبني دولة قوية بل تبقيها مفككة. من الضروري أن تشترك الأحزاب السياسية في المواقف الوطنية المتعلقة بالسياسة الخارجية والدفاعية، وبإمكانها أن تختلف حول السياسة الداخلية.

نعم في الانتخابات يمكن لكل حزب أن يكون له برنامجه الانتخابي الخاص به ويمكنه أن يضع فيه تصوراته للسياسة الخارجية والتحالفات الدولية وما إلى ذلك ولكن الصوت العراقي يجب أن يكون موحدا خارج فترة الانتخابات فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، حتى وإن اختلفنا مع سياسة الحكومة في جانب معين.

من غير المفيد أن تختلف الاحزاب في كل قضية، فهذا ليس في صالح قوة البلد ووحدة الشعب. الهوية الوطنية لا يمكن أن تنمو بهذه الطريقة. نعم، العمل السياسي الديمقراطي في العراق مازال جديدا، والعلوم السياسية مازالت بدائية في العالمين العربي والإسلامي، لأن الحكام العرب والمسملين على مر التأريخ أهملوا، متعمدين، هذا الحقل المهم من حقول المعرفة، بل حاولوا أن يقمعوه ظنا منهم أن تنميته سوف تضعف مواقعهم السياسية وأن الناس لو عرفوا في الشأن السياسي فإنهم سوف ينتقدون الحكام ويقفون ضدهم.

الناشطون السياسيون وأعضاء الأحزاب وقادتها يجب أن يلمُّوا في العلوم السياسية والقضايا الدولية ومن الضروري أن يستعينوا بخبراء ومراكز أبحاث سياسية متخصصة كي ترفدهم بالمعلومات الدقيقة لا أن يعتمدوا على الحدس والتصورات القاصرة المبنية على الأهواء والمعلومات القديمة. المواقف الدولية ليست ثابتة وعدو الأمس يمكن أن يكون اليوم حليفا.

لن يستطيع أحد أن يلم بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية إن لم يدرسها دراسة تفصيلية ويتابعها بشكل منتظم عبر آراء الخبراء ومراكز الأبحاث الدولية. بعض قادتنا السياسيين ومسؤولي الدولة يعتقدون بأنهم يفهمون في كل شيء دون أي جهد منهم لمعرفة ما يقوله المعنيون والخبراء. بل حتى بعض المثقفين هم الآخرون يعتقدون بانهم يفقهون في السياسة والعلاقات الدولية ويدلون بدلوهم (القاصر في معظم الأحيان) بسبب عدم الاطلاع وقلة المتابعة. الآراء القاصرة للسياسيين والمثقفين تساهم بدرجة كبيرة في تشكيل الرأي العام وتوجهه في الاتجاه الخاطئ وفي هذا خطر كبير على مستقبل البلد.

من باب الإنصاف والوطنية واحترام الاختصاص، يجب على السياسيين، خصوصا الكبار منهم، أن يتابعوا ما يجري في دول العالم المهمة التي لها علاقة بالشأن العراقي، ومن الضروري أن يقرأوا ما يُكتب في تلك البلدان وما يُكتب ويُقال عنها. الرأي يتشكل عبر المعلومات المتاحة للأفراد، وكلما قلت المعلومات يصبح الرأي المتشكِّل قاصرا ودون المستوى المطلوب. من حق الشعب العراقي أن يكون له قادة بمستوى قادة الدول المتقدمة بحيث أنهم قادرون على التحليل الدقيق للأحداث وصياغة سياسات مناسبة تخدم المصلحة الوطنية.

 

 

حميد الكفائي