الحياة، ٢٦ أغسطس/ آب ٢٠١٥    

صرخات الإصلاح في العراق تتعالى والشارع يغلي بالمطالب التي لا تعد ولا تحصى بسبب تلكؤ وعجز الحكومات السابقة عن تحقيق أي شيء يذكر، فالخدمات الأساسية متدنية والأمن متدهور والبطالة مرتفعة، بينما الفساد ضارب أطنابه في كل مرافق الدولة. إلا أن يدي رئيس الوزراء، حيدر العبادي، ليستا مطلقتين كلياً في إجراء الإصلاحات الجذرية التي يمكن أن تظهر نتائجُها بالسرعة التي يرغب بها المحتجون، على رغم التفويض الشعبي الكبير والتأييد السياسي الواسع الذي حظي به حتى الآن.

وعلى رغم أن العبادي أجرى إصلاحاتٍ جريئةً، مثل إلغاء مناصب عليا وإلغاء أو دمج ١١ وزارة، وتسريح المستشارين المتعاقدين وتقليص مخصصات المسؤولين وامتيازاتهم وملاحقة الموظفين غير العاملين والمدرجة أسماؤهم على قوائم الرواتب، أو ما سمي في العراق بـ «الفضائيين»، إلا أن هذه الإصلاحات لم ترضِ المحتجين الذين يطالبون بالمزيد، ابتداءً من القضاء المبرم على الفساد واستعادة الأموال المسروقة خلال السنوات الماضية وإقالة المسؤولين الفاسدين وتحسين الخدمات في شكل عاجل وتشغيل العاطلين من العمل وإغاثة النازحين وحل مشكلاتهم، وليس انتهاءً بتعديل الدستور وتحقيق قدر أعلى من العدالة والمساواة في توزيع الثروة.

غير أن العبادي ما زال مقيداً، فهو لا يستطيع تشكيل حكومة من دون مصادقة البرلمان عليها، والبرلمان مكون من كتل سياسية أخرى معظمها منافس له. لذلك فهو مضطر لأن يأخذ بنظر الاعتبار آراء هذه الكتل التي ربما تعلن عن استعدادها للتعاون معه لكنها تبقى تطالب بحصصها من الحكومة. وبعد الترحيب الأولي، وربما الاضطراري، بإصلاحات العبادي، بدأ المتضررون بتجميع قواهم والضغط على العبادي، وقد لاحظنا الاستياء الذي عبر عنه نائب رئيس الجمهورية أياد علاوي من تلك الإصلاحات التي طالت منصبه.

تعديل الدستور مطلب جماهيري وسياسي، وقد آن الأوان لاتخاذ قرار بذلك وتشكيل لجنة لتعديله. هناك من سيعارض التعديل ولكن الغالبية تطالب بالتعديل ويجب ألا يشكل أي نص دستوري أو قانوني عائقاً أمام الإصلاحات.

هناك من يطالب بحل البرلمان وتشكيل حكومة موقتة من التكنوقراط، ولكن هناك مشكلة في شرعية هذه الحكومة، وليس في مصلحة العبادي أن يقود حكومة غير شرعية خصوصاً أن البرلمان الحالي مستعد للتعاون معه، وقد أقر حزمة الإصلاحات التي اتخذها في البداية على رغم أنه أضاف إليها فقرات لم تكن ضمن ورقة الإصلاحات المعروضة عليه ما أزعج العبادي لأن بعضها كان موجهاً ضده أو ضد حلفائه ومؤيديه، خصوصاً حرمان العراقيين من حملة الجنسيتين من تولي المناصب الإدارية العليا، في مخالفة واضحة للدستور الذي ينص على المناصب السيادية فقط.

هناك على الأقل خمسة ملايين عراقي يحملون جنسيات أخرى بسبب اضطرارهم لمغادرة العراق بسبب قمع النظام السابق أو نتيجة لضغط العقوبات الدولية المفروضة على العراق إثر احتلاله الكويت. هناك مستاؤون من وجود هؤلاء في المناصب الحكومية إذ يعتقدون أنهم سيحصلون على فرص أكبر عندما يُحرم متعددو الجنسية من شغل المناصب العليا، متجاهلين الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها البلد من عودة الكفاءات المهاجرة، ومخاطرين بممارسة التمييز بين المواطنين على أسس جديدة. فبعد التمييز الطائفي والقومي والمناطقي، يأتي التمييز على أساس الحقوق المكتسبة في بلدان أخرى والتي لا تنفع أصحابها فحسب بل العراق أيضاً.

أما خيار حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة فصعب إن لم نقل مستحيل لأن العراق غير مهيأ للانتخابات حالياً وأكبر محافظتين، هما الموصل والأنبار، محتلتان الآن من قبل الجماعات الإرهابية ولا يمكن إجراء الانتخابات فيهما، وإجراء الانتخابات دون هاتين المحافظتين سيسبب إحراجاً للنظام ككل لأن البرلمان المقبل سيضم عدداً أقل من ممثلي العرب السنة، بينما يضم البرلمان الحالي ممثلين عن كل المحافظات العراقية لأن الانتخابات الماضية أجريت قبيل احتلال الموصل والأنبار. 

هناك خلط عند عراقيين كثيرين بين الحكومة والبرلمان وهؤلاء يلومون البرلمان على أخطاء الحكومة وقد يعود السبب إلى إشاعة هذه الثقافة من قبل الحكومة السابقة التي كانت ترمي بأخطائها على البرلمان. هناك خطورة في هذا الخلط لأن الحرية والديموقراطية مما يتمتع به العراق حالياً نتيجة مباشرة لوجود النظام البرلماني الذي يمكِّن كل مواطن من انتخاب ممثله. إن كان النواب الحاليون لا يمثلون ناخبيهم بحق فإن بإمكان الناخبين التصويت لغيرهم في الانتخابات المقبلة. لذلك فإن في مصلحة المحتجين التمسك بالبرلمان والنظام البرلماني لأنهم مدينون بحريتهم له.

أما مطلب المحتجين بالقضاء على الفساد فهو بالتأكيد من أهم ما يسعى إليه العبادي، على الأقل من أجل توفير الأموال لخزينة الدولة المنهكة حالياً بسبب اضطرار الحكومة للإنفاق على الحرب على الإرهاب التي تشكل أولوية قصوى. إلا أن تحقيق هذا المطلب ليس بالأمر الهين مع استشراء الفساد وقوة شبكاته.

هناك حقيقتان على المحتجين أن يعوهما. الأولى هي أن من المستحيل اجتراح المعجزات خلال فترة قصيرة، فالإصلاحات تحتاج وقتاً طويلاً كي تثمر، أولاً لأن تشخيصها وتشريع قوانين جديدة لمعالجتها يحتاج إلى وقت، وثانياً لأن هناك من يعرقلها لأنها تضر بمصلحته، حتى وإن ادعى أنه معها. والأمر الثاني أن الإصلاحات لا يمكن أن تتحقق إلا عبر النظام القائم حالياً برئاسة حيدر العبادي باعتباره النظام الشرعي الوحيد. الخروج على الشرعية سيضع العراق في مهب الريح وقد يفقد الشعب حريته وقدرته على التغيير لفترة طويلة عندما يتحكم به أصحاب القوة العسكرية. حتى الآن الجميع متمسك بهذا النظام ورئيس الوزراء المنتخب متجاوب مع المطالب الشعبية ومتحمس لها ويشعر أنها مكنته من تحقيق طموحاته وطموحات باقي العراقيين في إقامة دولة حديثة يحترمها العراقيون والعالم. 

أمام قادة الاحتجاجات تحدٍ خطير وهو السيطرة على العواطف الجياشة وتثقيف المحتجين بالتركيز على الممكنات لأن المطالبة بغير الممكن ستقود إلى تبديد الجهود وإضاعة الوقت وربما الفوضى التي لا تخدم أحداً باستثناء الجماعات الإرهابية.

حميد الكفائي

http://alhayat.com/Opinion/Writers/10792016/الممكن-وغير-الممكن-في-الإصلاحات-العراقية