من المسئول عن الأمن في العراق؟ الداخلية أم الدفاع أم الأمن الوطني أما المستشارية أم الخابرات أم الجميع؟ وهل يحقق تعدد المرجعيات الأمن فعلا أم يفاقمه؟

علينا التوقف عن المجاملات عند تقييمنا للوضع الأمني المتدهور في العراق والحلول التي وضعت لهذه المشكلة وكفاءة الأشخاص الذين تولوا المسؤولية الأمنية منذ التاسع من نيسان حتى الآن. نحن دائما نلوم “الإرهاب الدولي” و “المسلحين الأجانب” المتطرفين و”دول الجوار” التي تسهِّل دخولهم وتدربهم وتموّلهم و”دول أخرى” “لها مصلحة” في زعزعة استقرار الأمن و”رجال دين متطرفين” عراقيين وأجانب “برروا” أعمال الإرهاب دينيا و”حثوا” الشباب العربي على الانخراط في أعمال “الجهاد” ضد “الكفار المحتلين” لبلد إسلامي وضد “المتعاونين مع الاحتلال” من العراقيين من “الروافض” و”أحفاد ابن العلقمي” أو من الأكراد العلمانيين “المعادين للعروبة التابعين للأجنبي” أو السنة “النائمين غير العارفين بالأخطار المحدقة بهم”، والتي يبدو أن الإرهابيين الأجانب كالزرقاوي وابن لادن والظواهري أعرف منهم بها. كذلك نلوم أبناء الشعب العراقي “المتهاونين” مع الإرهابيين الذين “يؤوونهم” و”يتعاطفون” معهم بل وحتى “يزوجونهم بناتهم”. كما نلوم “الفساد” الإداري و “الرشوة” المتفشية في المجتمع العراقي والتي نعزوها إلى “فساد النظام السابق” طبعا، فالنظام الجديد “كامل متكامل” وليس فيه فساد أو محسوبية أو انتهازية أو رشوة، ورجاله منزَّهون عن الخطأ والرغبات البشرية وكلهم من المناضلين الأشداء الذين لا هم لهم سوى خدمة الشعب ومرضاة الله تعالى، ولم ينخرطوا في المحسوبية والفساد أبدا ولم يعيّنوا أيا من أقاربهم أو أصدقائهم في المواقع التي يشغلونها، وكلهم جاءوا “حسب الكفاءة والأهلية” وبما يمليه “الاستحقاق الانتخابي”. كذلك لا نتوقف عن لوم “المحتلين الأمريكان” وخططهم “الخبيثة” التي لا تريد بهذا البلد الأمين إلا شرا، وهم لم يسقطوا صدام ولم يصروا على إقامة نظام ديمقراطي محله ولم يضمنوا هذه الديمقراطية بأرواح جنودهم وأموالهم. نعم نلوم الجهات الأربع والمحيطات الخمسة والقارات السبع وكل شخص وشيء باستثناء أنفسنا.

ولست هنا في معرض تقييم كل هذه التبريرات، وليس خافيا ما أعتقده حولها، لكن الذي يهمني في هذا المقال هو لماذا نجحت دول أخرى صغيرة وكبيرة، قوية وضعيفة، مجاورة وبعيدة، في تطويق مشاكل أمنية مشابهة بل قد تكون أخطر، بينما فشلنا نحن في العراق في الحد من أعمال الإرهاب أو تقليصها في وقت يقول أكثرنا أنه ضد الإرهاب ومع الديمقراطية والتعددية ودولة القانون؟ ما هو الحاضر في تلك البلدان الغائب في العراق الذي يمكِّنها من حفظ أمنها ومحاربة الإرهاب ويعيقنا من فعل الشيء نفسه؟ ولنكن صريحين فإننا فشلنا كشعب وأجهزة أمنية وحكومة وسياسيين ومنظمات مجتمع مدني في الحد من الإرهاب والقبض على الإرهابيين، وإن الكثير من الإنجازات الأمنية التي تحققت كمقتل الزرقاوي وأتباعه، قد تحقق معظمها على أيدي الأمريكيين والقوات المتعددة الجنسيات. الزرقاوي كان يعيش بين ظهرانينا وقد أجر منزلا بيننا ويخرج منه في الصباح أو المساء ليقتل الناس بالعشرات ويرسل السيارات المفخخة ويعود إليه لينام مطمئنا ولم ينتبه إليه أحد منا، لا من شرطتنا أو جيشنا، ولا من حرسنا الوطني ولا حتى من جهاز مخابراتنا. الانتحاريون يخرجون كل صباح من منازل “أمينة” في بغداد ليختاروا أهدافهم بعناية ويفجروا أنفسهم بين المصلين أو المتسوقين أو العاملين أو دوريات الشرطة ليقتلونا في وضح النهار، ولم يكتشف أي منا أيا من هؤلاء الانتحاريين قبل الإقدام على فعلته، إلا ما ندر، ولم يخبر جار يوما أنه شعر بحركة مريبة في البيت المجاور له، ولم يخبر صاحب مطعم أو مقهى أو محل أنه رأى أمرا مثيرا للشك في الشارع الذي يعمل فيه، إلا ما ندر.

يجب أن نتحدث بصراحة ونسمي الأشياء بأسمائها حتى نتمكن من إيجاد الحلول الناجعة لمشاكلنا. إن الغائب في العراق هو التماسك الوطني والطائفي والقومي والاجتماعي والرغبة الحقيقية في إقامة نظام ديمقراطي تعددي في العراق عند الكثير من الأطراف المشاركة في العملية السياسية وغير المشاركة فيها. فهناك بيننا من يريد أن ينفرد بالسلطة ويحتفظ بها في عائلته أو حزبه أو طائفته أو منطقته، وهناك من يريد أن يفرض على العراق آراءه والنظام السياسي الذي يؤمن به أو الذي يؤمِّن له، ولأحفاده من بعده، البقاء في السلطة، وهناك من يريد أن يحصل على مكاسب وقتية على حساب الآخرين، سواء كانت مالية أو شخصية، وهناك من هو مستعد لاستخدام كل الطرق المشروعة وغير المشروعة في سبيل إبعاد الآخرين عن طريقه والاستئثار بالسلطة. وهناك من يريد أن ينتقم من أبناء وطنه لأسباب طائفية أو حزبية أو قومية، وهناك من يتوهم أن بإمكانه أن يعيد “أمجاد” الماضي في التسلط على رقاب الناس وإخضاعهم لجبروته مرة أخرى. نحن لا نزال مختلفين على كل شيء ولم نتفق بعد على ثوابت وطنية أهمها حكم القانون والحرية والتعددية والديمقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء البلد الواحد. كذلك يجب ألا ننسى تقصير أو قصور من تولى المسؤولية الأمنية حتى الآن من مسئولين ووزراء وضباط، فعلى هؤلاء يقع جزء كبير من المسؤولية، ولا نريد أن نحملهم المسؤولية كاملة.

 

هناك جهات كثيرة في العراق اليوم تضطلع بمسؤولية الأمن أولها وزارتا الداخلية والدفاع، ثم وزارة الأمن الوطني، التي لا أعرف شخصيا ماذا تفعل في الحقيقة وأتمنى أن يدلني أحد على أفعالها أو واجباتها، وهناك نائب رئيس الوزراء للشؤون الأمنية، وهناك مستشارية الأمن الوطني، وهي مستشارية كما يدل عليها اسمها، لكن استشاراتها لم تحسِّن للأسف الشديد من الوضع الأمني، وقد يكون السبب في عدم الأخذ باستشاراتها! من يدري، وهناك مديرية المخابرات العامة، التي تخرج علينا بتقرير مفصل واحد في العام لكنه جيد وواقعي، تحدِّثُنا فيه عن عدد المسلحين وعدد المتعاطفين معهم في العراق، وعدد هؤلاء هو مئتان وأربعون ألفا حسب آخر تقرير على ما أتذكر.  وهناك قوات حماية المنشآت، التي تحمي المنشآت عندما تسنح لها الفرصة، وهناك المليشيات الرسمية وغير الرسمية، التي تدعي أن وجودها ضروري لحفظ الأمن الذي سيتدهور إن هي حلت نفسها، وهناك شركات الأمن الخاصة ومجموعات حماية الوزراء والمسئولين والمتنفذين والأغنياء والسياسيين. وكأن كل هذه المؤسسات والوزارات والمديريات والمستشاريات والمليشيات والمجموعات المسلحة لا يكفي، فقد أسسنا أخيرا “المجلس السياسي للأمن الوطني” الذي لا ندري ماذا سيفعل وما هو دوره، إن كان له دور حقيقي، وهل سيكون جزءا من المشكلة أم من الحل.

إن مشكلتنا أكثر تعقيدا من أن تحل عبر زيادة عدد المؤسسات الأمنية، أو عدد المسئولين الأمنيين، بل قد يضيف هذا التعدد تعقيدا جديدا إلى المشكلة. إن مسؤولية كبرى تقع على عاتق الذين تولوا المسؤولية الأمنية في الحكومة الجديدة، فقد تولوا ملفا معقدا فيه من التحديات والتشعبات ما قد لا يتمكنون من مواجهته أو فك رموزه المعقدة، أما لعدم خبرتهم في هذا المجال، فبعضهم لم يعمل في الأمن يوما واحدا في حياته، أو لأنهم غير قادرين على الإمساك بمقومات النجاح بسبب تعقيداتها وتناثرها في أماكن متباعدة. فهل هم مدركون للتحديات عند قبولهم بهذه المناصب، أم أنهم قبلوها حبا بها وبما توفره من امتيازات لهم؟ أم أنهم مستبشرون خيرا عاملون بحسن نية، غافلون عن حقائق الأمور؟

لن يتحقق الأمن حتى نبدأ نثق ببعضنا البعض كمواطنين وسياسيين، ولن نتمكن من ملاحقة الإرهابيين دون أن يتفاعل أبناء الشعب كافة مع الحكومة ويساعدوا في الكشف عن تحركات المجرمين، وما لم تتعاون معنا دول الجوار التي لا تزال تمول وتسلح الإرهابيين وتقدم لهم التبريرات الدينية والأخلاقية. لن نتمكن من تحقيق الأمن في العراق حتى نتمكن من القضاء على التطرف والتعسف الكامن بين ظهرانينا، والعنصرية والطائفية المعشعشة بيننا منذ مئات السنين، وحتى نقبل ببعضنا البعض كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وننبذ التكفير والتمييز والأنانية. ولن نتمكن من تحسين الأمن إن لم تأت الحكومة بخطط علمية وعملية مدروسة لمعالجة هذا الوضع الخطير.

كل هذه الشروط لتحقيق الأمن لن تتحقق قريبا بل تحتاج إلى فترة طويلة من الزمن، لكننا لن نستطيع أن ننتظر طويلا على وضعنا الحالي حيث عشرات القتلى والجرحى والمخطوفين يوميا، لذلك يجب أن نتخذ إجراءات جذرية صارمة لمواجهة الإرهابيين، قد يكون بعضها قاسيا على المواطنين. اقترح أن يكون بين هذه الإجراءات ما يلي:

1-تسجيل السيارات بأسماء أصحابها وعناوينهم في سجل مركزي تتوفر معلوماته للأجهزة الأمنية العراقية، وعدم السماح بمرور السيارات غير المسجلة أو قيادة الأشخاص الذين لا يحملون باجات أمنية بأسمائهم بقيادة السيارات.
2- إغلاق المناطق المزدحمة والأسواق بوجه السيارات والمركبات وتشغيل حافلات أو سيارات خاصة داخلها لنقل الركاب والمتسوقين.
3-تحديد حركة الأجانب، خصوصا من البلدان المصدرة للانتحاريين، أو منعهم كليا من دخول العراق إلا في حالات الضرورة بعد التأكد من سلامة نواياهم.
4- إصدار باجات أمنية متطورة غير قابلة للتزوير لطلاب الجامعات والمدارس وموظفي الدوائر الحكومية العامة وباقي المؤسسات بل وحتى مرتادي المساجد، ومنع كل من لا يحمل باجا من الدخول إلى هذه الأماكن.
5- نصب كاميرات في الأماكن العامة ومفارق الطرق لمراقبة حركة  السير والناس ورصد التحركات المشبوهة والتصدي لها قبل استفحالها.
6-إغلاق المداخل المتعددة للأحياء السكنية، وتحديد دخولها وخروجها بمدخلين مثلا وحراسة هذه المداخل باستمرار للتأكد من عدم دخول الغرباء والمشبوهين.
7-تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية وتزويدها بما تحتاجه من أجهزة رصد وتنصت ومراقبة وسيارات مدرعة بالإضافة إلى تحصين نقاط التفتيش ضد السيارات المفخخة وباقي الهجمات الإرهابية وإنزال العقوبات بالمقصرين أو المتساهلين من الإرهابيين.
8-تشكيل هيئة لتنسيق النشاطات الأمنية بين المجاميع المختلفة وتبادل المعلومات الأمنية وكذلك لتسهيل مشاركة أبناء الشعب في حفظ الأمن.
9-فرض أحكام الطوارئ في بعض المناطق ومحاسبة كل من يحجب معلومات يمكن تساعد في كشف النشاطات الإرهابية والإجرامية ومن يثبت عدم تقديمه المعلومات المهمة التي بحوزته لأجهزة الدولة المختصة.
هذه الإجراءات تحتاج إلى مصادر مالية وتصميم من الدولة وأعتقد أننا سنتمكن من الحصول على دعم دولي، مالي ولوجيستي ومعلوماتي، لأي خطة أمنية مقنعة تسهم في تخليص أبناء الشعب العراقي من هذه الكارثة التي حلت به. العراق يمر في أزمة حادة وعلى حكومتنا أن تعترف بذلك وتطلب المساعدة الفورية من دول العالم لحلها لأن المشكلة ليست عراقية بحتة وقد رأينا أن قتل الإرهابيين للدبلوماسيين الروس لم يكن بدافع داخلي عراقي، وإنما متعلق بسياسة روسيا في الشيشان. في غياب هذا الإدراك الأوسع للمشكلة والاستعداد لاتخاذ ما يلزم لحلها، فإن المأساة سوف تستمر ومزيد من الأبرياء سيسقطون ضحايا للإرهاب يوميا.
جريدة الصباح البغدادية 2006