الحياة، ١٨ أغسطس/ آب ٢٠١٥  

لم تكن الإجراءات الإصلاحية الجذرية التي اتخذها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قبل أيام عابرة أو تهدف إلى مجرد الإصلاح البعيد الأمد، بل كانت ضرورة ملحة بعد أن وصلت الأوضاع في البلاد إلى مراحل خطيرة تهدد بانهيار الاقتصاد والمؤسسات ومن ثم الأمن أو الثلاثة معاً. كما أنها لم تأتِ استجابة لمطالِب الجماهير المنتفضة ودعوة المرجعية الدينية فحسب، بل كانت استمراراً طبيعياً للمسيرة الإصلاحية التي بدأها العبادي منذ توليه رئاسة الوزراء قبل عام، لكن الذي عجَّل بها هو الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تراجع الإيرادات بسبب تدني أسعار النفط.

لقد اتخذ العبادي قراراً قبل عدة أسابيع بخفض الرواتب والمخصصات المالية والامتيازات للمسؤولين الكبار، من مدير عام فما فوق بنسب تصل إلى النصف، كما فرض العديد من الضرائب على بعض الخدمات، كالاتصالات، لتوفير المزيد من الإيرادات لخزينة الدولة الخاوية بسبب استشراء الفساد وتزايد الإنفاق على الحرب على الإرهاب.

أما قراره الأخير إلغاء ستة مناصب عليا، هي نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، فلم يكن أمراً سهلاً لأنه بالتأكيد سيخلق له مشكلات سياسية مع شركائه السياسيين، إن عاجلاً أم آجلاً، كما أنه لن يكون حلاً لمشكلات العراق التي تتطلب إجراءات أخرى أكثر قسوة بما في ذلك رفع الضرائب وإعادة النظر في سلم رواتب موظفي الدولة وامتيازاتهم. الدولة الآن في حاجة ماسة إلى الأموال وليس هناك مصدر إضافي للتمويل غير تقليص النفقات وزيادة الضرائب. لا تتوفر للعراق مصادر أخرى حتى عبر الاقتراض، فأقصى ما يستطيع اقتراضه من البنك الدولي هو خمسة بلايين دولار وهذه، إن وافق عليها البنك، غير كافية لسد النقص وتضييق الفجوة الحاصلة بين الإيرادات والنفقات.

غير أن الطريقة التي حصل فيها إلغاء المناصب العليا تنطوي على قدر من الاستخفاف، غير المقصود على الأرجح، بزعماء سياسيين منتخبين ولهم ثقلهم السياسي في البلاد أمثال الدكتور إياد علاوي والدكتور صالح المطلك والدكتور أسامة النجيفي والسيد نوري المالكي، وكان بالإمكان أن تحدث هذه الإصلاحات بطريقة أخرى خصوصاً وأن المذكورين أعلاه، باستثناء علاوي الذي كان داعماً لحكومة العبادي بقوة، أعلنوا تأييدهم لإجراءات العبادي وكانوا سيؤيدونها بقوة أكبر لو أنها حصلت بطريقة تحفظ لهم كرامتهم واعتبارهم. لكن العبادي كان مضطراً لاتخاذ قرارات جذرية سريعة من هذا القبيل من أجل إرضاء الجماهير المحتجة في الشوارع منذ ثلاثة أسابيع وإقناعها بأنه جاد في عملية الإصلاح والتغيير، خصوصاً وأن المرجعية الدينية ذات النفوذ الواسع في العراق أيدت تلك الاحتجاجات ودعت العبادي إلى اتخاذ كل إجراء من شأنه أن يصلح الأوضاع ويوقف التدهور.

صحيح أن بعض من ألغيت مناصبهم هم من خصوم الدكتور العبادي السياسيين، ولا أحسب أنه اتخذ قراره انتقاماً منهم، لكنهم سيسخطون من إجرائه هذا دون شك، خصوصاً وأنه حصل دون استشارتهم، مع إيمانهم بأن الإجراءات التي اتخذها كانت ضرورية وملحة بالإضافة إلى كونها تحظى بشعبية واسعة باعتبار أن تلك المناصب شكلية وإرضائية ولا تؤدي أي وظائف ضرورية، بل هي زائدة كلياً باستثناء أنها تبقي هذه الشخصيات السياسية، المهمة دون شك، ضمن إطار الحكومة ومنسجمة معها من أجل ألا تنتقل إلى صفوف المعارضة وتحدِث شرخاً في الصف الوطني في هذه المرحلة الحرجة أمنياً وسياسياً واقتصادياً والتي لا تتحمل أي قدر من التناحرات والانشقاقات. 

ليس من طبيعة العبادي إهانة الآخر أو التعدي عليه حتى لو كان خصماً، فالرجل معروف بالعدالة والحكمة ودماثة الخلق، لكنه كان واقعاً تحت ضغوط كثيرة أولها الأزمة المالية الخانقة الناتجة عن تقلص الإيرادات من مبيعات النفط إلى النصف تقريباً، وثانيها تدهور الأمن في شكل خطير ما تطلب زيادة الإنفاق في شكل مفاجئ على أجهزة الشرطة والجيش والمتطوعين، وثالثها تراجع الخدمات، خصوصاً التيار الكهربائي الذي ينقطع لاثنتي عشرة ساعة في اليوم أو أكثر في بعض المناطق، وأخيراً وليس آخراً، استشراء الفساد في مرافق الدولة المختلفة والذي بلغ حداً ينذر بانهيار مؤسساتها خصوصاً وأنه انتشر بين مسؤولين عسكريين وأمنيين وأدى في شكل مباشر إلى سيطرة الجماعات الإرهابية على أكبر محافظتين في العراق هما نينوى والأنبار بسبب عدم قدرة الجيش على الوقوف بوجهها على رغم المبالغ الطائلة التي أنفقت على تدريبه وتسليحه خلال اثني عشر عاماً.

الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في العراق منذ عدة أسابيع لن تتوقف خصوصاً بعد نجاحها في تحقيق بعض مطالبها، وهي بالتأكيد ستعزز من موقع العبادي الذي تصاعدت شعبيته إلى أعلى مستوياتها خلال عامه في السلطة. فلم يحظَ زعيم سياسي عراقي بالشعبية التي يتمتع بها العبادي حالياً ربما منذ عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، على رغم أن هذه المقارنة قد تحمل بعض الشؤم لأن قاسم على رغم شعبيته الواسعة لم يستطع الاحتفاظ بالسلطة سوى أربع سنين ونصف السنة.

هناك الآن إجماع وطني على أن العبادي هو الشخص المناسب في المكان المناسب لأنه كفوء ونزيه وحكيم في الوقت نفسه ولم يسعَ للسلطة بل أجمعت عليه القوى الدينية والسياسية والشعبية، حتى أن المحتجين على إخفاق الحكومة في حفظ الأمن ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات الضرورية، لم ينتقدوا العبادي مطلقاً بل هتفوا باسمه وأعلنوا تأييدهم له لإيمانهم أنه قادر على إحداث التغيير المطلوب وأنه لا يبتغي من وراء ذلك غير مصلحة العراق.

إنها حقاً فرصة العبادي التاريخية لتغيير الأوضاع في شكل جذري في العراق وتحقيق ما يصبو إليه معظم العراقيين في إقامة دولة عصرية قوية تلتزم بالقوانين وتعامل مواطنيها جميعاً على أساس العدالة وتوفر لهم الأمن والكرامة وتصون الحريات والحقوق. دولة تكون منسجمة مع المحيط الإقليمي، والعربي تحديداً، والمجتمع الدولي وتركز اهتمامها على ترسيخ اقتصاد السوق وتحريره من الاعتماد على الموارد الطبيعية التي لا تبني اقتصاداً حقيقياً بل تشجع على الفساد والكسل. دولة تحترم الحريات الشخصية ولا تضحي بها من أجل إرضاء رغبات بعض المتشددين والانتهازيين.

http://alhayat.com/Opinion/Writers/10638581/الفرصة-الأخيرة-لدولة-متماسكة-في-العراق