المجتمعات البدائية واحتقار العمل

مجلة الهدى-آب-2015

المجتمعات البدائية لم تعتَد على العمل بل على الصيد والغزو واقتسام الغنائم المكتسبة عبرهما، أو أن يجود القوى على الضعيف بشيء من هذه الغنائم، ومن هنا تطورت عادة الكرم عند بني البشر بسبب حاجة الجميع لأن يحصل على قوته من الآخرين ممن يتمكنون من الظفر بصيد أو غنيمة. لم تعرف المجتمعات البشرية الأولى كسب العيش عبر العمل، وعندما اضطرت له لاحقا إثر اكتشاف الزراعة، اعتبرته حقيرا ومهينا وفي اللغة العربية اُشتُقت كلمة (مهنة) و(امتهان) من الإهانة!

وبسبب هذا الاحتقار للعمل، يفضل أفراد المجتمعات البدائية ممارسة العنف والتغالب ويتفاخرون بهما، وإن لم يتمكنوا منها لضعف أو مرض أو قصور فيلجؤون إلى الاستجداء والتشاطر والنصب وممارسة الغش والسرقة وما إلى ذلك من موبقات.

ومازال كثيرون في المجتمعات البدائية أو التي تأخر فيها التطور يمارسون الصفات أعلاه، من عنف ونصب واستجداء وتشاطر وتغالب حتى عندما لا تكون لهم حاجة بذلك لأنهم يشعرون بسعادة وارتياح غامرين عندما يتمكنون من ممارسة الغش وتنجح مكائدهم في الحصول على مكسب ما عبر النصب. بل هناك من يدعي (زورا وبهتانا) من أنه سرق كذا ونهب كذا وصرع فلانا ونصب على علان وهزم وحده عشرة أشخاص وجردهم من مقتنياتهم.

أعرف شخصا في غابر الأزمان (باعتبار أنه لا يوجد حاليا من أمثاله!) كان يمتهن السرقة العلنية ولا يكسب أي مصدر للعيش سواها وكان يفتخر بقدرته على (النشل) وطالما تحدى أشخاصا بأنه قادر على سرقة ما في جيوبهم دون أن يشعروا، وكان دائما يربح الرهان لقدرته الفائقة على السرقة. لكن هذا الشخص كان سخيا إلى أبعد الحدود وقد فتح مضافة لاستقبال الناس وتقديم الطعام والشراب والمأوى لهم. لم ينتقده الناس كثيرا لسرقاته بل كانوا يمتدحونه لكرمه وبذخه وينسون أن أمواله كلها مسروقة.

ومازال في مجتمعاتنا من يتبع ثقافة المجتمعات البدائية، فهو يمارس العنف إن تمكن منه، وإن لم يتمكن فإنه يلجأ إلى الغش والعيش على جهود الآخرين عبر الاحتيال. كثيرون من هؤلاء قادرون على العمل ويجيدون مِهَنا وحِرَفا مفيدة لكنهم يفضلون كسب عيشهم عبر وسائل أخرى غير العمل النافع المثمر، ربما دون قصد منهم لكنها ثقافة تربوا عليها ولا يستطيعون مغادرتها.

كثيرون في مجتمعاتنا يتخرجون من كليات الطب والهندسة ليعملوا في مجالات أخرى بعيدة عنها وغير مثمرة بل تعتمد على جهود آخرين، بينما يفتقر المجتمع إلى الاطباء والمهندسين والتخصصات العلمية الضرورية. ومن الملاحظ أيضا أن كثيرين تركوا تخصصاتهم النافعة كي يعملوا في مجالات لا خبرة لهم فيها ولا معرفة ولا يمكنهم إجادتها والسبب هو أنهم في أعماقهم لا يقيِّمون العمل إلا إذا كان في الإدارة العليا أو المناصب الحكومية حتى وإن كان المنصب شكليا لكن المهم أن يكون (رنّانا) كمستشار للشؤون الكذائية، وكم أضر هذا التوجه بالدولة بل هو أهم أسباب تأخرها وتدهور الخدمات فيها. 

مازال هناك من يحتقر العمل في العديد من المهن المحترمة لذلك تراه عندما يريد الاساءة لخصمه يفتري عليه بأنه كان يعمل في إصلاح السيارات أو بيع الكبة أو الكباب أو الخبز أو حتى الموبايلات وما إلى ذلك من مهن نافعة للمجتمع، وينسون أن الأنبياء والأئمة مارسوا الفلاحة والرعي والنجارة والبستنة والبيع والشراء من أجل أن يكونوا نافعين في مجتمعاتهم. بودي هنا أن أسجل أنني شخصيا عملت فلاحا وحارسا وسائقا وعامل بناء وعاملا في دكان لبيع القرطاسية قبل أن أعمل صحفيا وباحثا اقتصاديا ومديرا وأستاذا جامعيا، وأشعر بفخر أنني طوال حياتي كسبت عيشي من العمل الشريف النافع.   

المجتمعات الحديثة تقدس العمل لأنه الوسيلة الوحيدة إلى التقدم والابداع والنفع والسعادة، ونحن في العراق بحاجة ماسة إلى حملة ثقافية واسعة النطاق لترسيخ قدسية العمل واحتقار العنف والاستجداء والغش.