عاشق الحضارة والعمارة إذ يغادر حالماً

 الحياة، ٢٩ يوليو/ تموز ٢٠١٥ 

 

لن يستطيع كاتب مهما أوتي من مواهب وقوة ذاكرة أن يلم بحياة المعماري العراقي محمد مكية الذي رحل أخيراً. فكيف يكون ذلك وإنجازات الرجل عديدة وأفكاره كثيرة ومواهبه مميزة وحياته امتدت مئة عام. كتب عنه كتاب مميزون بينهم رشيد الخيون الذي أدار منجزه الثقافي الأخير «ديوان الكوفة» في لندن، والشاعر والمفكر حسين الهنداوي، والمهندس المعماري خالد السلطاني، لكنهم يعترفون بأن الإلمام بتفاصيل حياة رجل أمضى كل وقته في خدمة الحضارة والمدنية ليس سهلاً.

أصدق وصف لمحمد مكية هو «عاشق بغداد». فهي بحق الصفة الأوضح في حياته إذ كان ينظر إلى هذه المدينة نظرة تمتزج بالتاريخ والبيئة الاجتماعية لأهلها والمناخ السائد في المنطقة. لكن حتى هذه الصفة المعبرة تظل قاصرة عن وصف مكية إذ لم يكن عاشقاً لبغداد فحسب، بل عاشقاً للقدس، التي حدثني عنها كثيراً عندما أجريت معه لقاء صحافياً في التسعينات، بينما كتب نجله كنعان كتابه الشهير «الصخرة: قصة القدس في القرن السابع الميلادي». وكان عاشقاً للقاهرة ودمشق ومراكش والرياض والمنامة والكويت والدوحة ومسقط وتكساس وروما ولندن، وكان له في كل من هذه المدن أثر معماري وثقافي مميز… فأي عشق يأتي من فنان يربط بين العمارة، كفن وعلم، وحياة الناس وتاريخهم الإنساني وبيئة المنطقة ومناخ وجغرافية الأرض وما فيها من سهول وتلال وجبال وأنهر وجسور وطرق.

لم يتردد مكية، كما هي عادة العاشقين، أن يجترح المغامرات من أجل بغداد، وعندما دعاه صدام حسين في الثمانينات للمشاركة في نهضة عمرانية موعودة، حزم حقائبه مغادراً لندن إلى عشقه الأول، في رحلة جلبت عليه سخط أقرب الناس إليه، ألا وهو نجله كنعان، مؤلف الكتاب الأشهر في سجل المعارضة لنظام صدام حسين، «جمهورية الخوف»، فاضطر لأن يكتب باسم مستعار هو «سمير الخليل»، خوفاً على والده من بطش النظام. وقصة خلاف الإبن مع الأب لم تعد سراً، بل كتب فيها الروائي الأميركي المعروف، لورانس وستشلار، كتاباً تحت عنوان «كوارث المنفى» صدر عن جامعة شيكاغو. وبينما أثارت عودة مكية إلى بغداد في ظل صدام سخط الإبن على أبيه، فإن تلك العودة المغامرة يجب أن تسجل لمحمد مكية لا عليه. فقد كانت تضحية منه في سبيل هدف أسمى هو المساهمة في نهضة بغداد، ومغامرة كان مستعداً لنتائجها إذ كادت أن تودي بحياته أو حريته. لم تكن مطلقاً مهادنة لنظام قمعي ديكتاتوري أحبط المشروع الأبرز في حياته وهو «جامعة الكوفة». ولم تكن موافقة منه أو قبولاً بجرائم النظام أو تأييداً لحروبه العبثية التي دمرت العراق وأوصلته إلى وضعه الحالي، بل العكس هو الصحيح، إذ كانت محاولة لإيقاف التدهور والتردي الحضاري في بغداد والمساهمة في نهضة حضارية محتملة في ظل ما رآه ممكناً.

لم يكن محمد مكية سياسياً على رغم أن السياسة في عالمنا العربي تفرض نفسها على الجميع في ظل الأنظمة الشمولية القمعية كنظام صدام حسين التي لا تترك صغيرة في حياة الناس إلا وتعبث فيها. كان فناناً مبدعاً وصاحب مشروع حضاري نهضوي أراد عبره أن يعبّر عن هوية الشعوب وثقافات المدن عبر العمارة والفن. كان يسعى بقوة من أجل هذا الهدف ولم يتردد في بذل أي جهد يساهم في إعلائه وترقيته. لم يعرف اليأس أو الهوان أو الإحباط، فكان عندما يتعثر مشروع، يسارع لإطلاق مشروع آخر يوازيه في الأهمية. وعندما لم تثمر رحلة بغداد الأخيرة، عاد إلى لندن وأطلق عام 1986 مشروع «ديوان الكوفة» وكان حينها قد تجاوز السبعين.

لقد جمع الديوان الفنانين والمثقفين والمبدعين في كل صنوف المعرفة والفن والأدب من العرب والأجانب تحت سقف واحد. كان الديوان حافلاً طوال الأسبوع بأحداث ومعارض ومحاضرات ومناسبات. يفتح أبوابه أيام الأربعاء في برنامج خاص به، بينما كان متاحاً في الأيام الأخرى للآخرين، مؤسسات وأفراداً.

أتذكر مساهماته وكلماته المنطلقة من قلب نابض بالحب والحياة وعقل مصمم على التطور والتجديد. وفي إحدى فعاليات «ديوان الكوفة» منتصف التسعينات، قال مكية: لقد بلغت الثمانين من العمر ولم يعد جسدي قادراً على تلبية كل ما أود القيام به، وأنا أعول على الشباب أن يضاعفوا جهودهم من أجل تطوير حياتهم والنهوض بشعوبهم ومدنهم وثقافاتهم. أنظروا إلى المبدعين في تاريخنا الحديث (فلان وفلان وفلان)، وأجيبوني: أليس بإمكاننا أن نضاعف عددهم مرات عدة؟ فالبيئة التي أنجبت جواد سليم والسياب والملائكة والرحال والجادرجي والوردي قادرة على أن تأتي بمئات غيرهم.

وعلى رغم أن كلماته تلك كانت تهدف إلى شحذ الهمم إلا أنها أشعرت سامعيه بأنه كان يشعر باقتراب نهاية حياته. لكنني كنت واهماً. فلم يتوقف مكية عن العمل والتفكير بالمستقبل وطالما رأيته حاملاً حقيبته على كتفه، كما يفعل أي طالب أو عامل، مستقلاً الحافلة العامة ذاهباً إلى العمل أو عائداً إلى محل سكناه في حي الثقافة والمعرفة «بلومزبيري»، الذي يضم المتحف البريطاني ومكتبة سنيت هاوس ومسرح بلومزبيري ومكتبة فويلز العملاقة وكلية الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) وكلية لندن الجامعية وباقي المواقع المهمة، ولا أحسب أن اختيار مكية السكن في هذا الحي كان صدفة.

زرته قبل بضعة أشهر في شقته وكنت بمعية نجله كنعان الذي قدمني له ظانّا أنه ربما نسيني، فسارع الشيخ المتوقد الذهن إلى القول: «أعرفه جيداً». وبادرني بالسؤال عن مدينة الديوانية! شعرت في تلك الزيارة أنني مقصر في حقه، فهذا الرجل الذي ملأ حياتنا ثقافة وسعادة له حق علينا أن نزوره في خريف عمره كي يشعر بأن جهوده الثقافية لم تذهب سدى. كررت الزيارة بعد أيام وبقيت معه بعض الوقت وأطلعته على صور كنت قد التقطتها لمبانٍ أثرية في بغداد. فرح لرؤيتها وطلب مني أن آتي له بالمزيد في زياراتي المقبلة. سألني عن محلة «صبابيغ الآل» التي نشأ فيها ثم أوصاني قائلاً: «مدنكم هذه هي متاحف تحمل تاريخكم وثقافاتكم وهويتكم فحافظوا عليها ولا تدعوا السيارات تتمكن منها. أغلقوا الشوارع بوجه السيارات في الأماكن الأثرية وحولوها إلى واحات للتجوال والتأمل».

طوال مئة عام وعام، لم يتوقف محمد مكية عن التفكير بالحضارة والمدنية والعمل من أجلهما. ربما لحسن حظه أنه بقي بعيداً من بغداد في السنوات الأخيرة، فلو كان زارها لربما كان قد مات قبل هذا الموعد.

 

 http://alhayat.com/Opinion/Writers/10264361/%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D8%B0-%D9%8A%D8%BA%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%8B