الحياة، ٢٧ يونيو/ حزيران ٢٠١٥  

ظاهرة التفاخر بإيذاء الآخر وإخافته عصية على التلاشي في مجتمعاتنا، فهي لا تزال سائدة ولم تتأثر بمتغيرات الحياة العصرية. هكذا هي تقاليدنا قبل ألفي عام ولم تتغير كثيراً عندما تغيرت ظروف حياتنا وصرنا نعيش في مدن مليونية ونستخدم الكومبيوتر والإنترنت والهاتف المحمول ونتنقل بالطائرة ونعمل خمسة أيام في الأسبوع ونعطل شهراً في العام. كان شاعرنا المتنبي يتفاخر بالليل والخيل والبيداء والسيف والرمح ويمتدح سيف الدولة عندما كان يبتسم لمقتل الأبطال «تمر بك الأبطال كلمى هزيمة / ووجهك وضاح وثغرك باسم»، بينما اعتبر أبو تمام أن السيف «أصدق إنباءً من الكتب»! وما زال قادتنا ومفكرونا يرددون العبارات نفسها ويشعرون بالمشاعر ذاتها. فبعد مئات السنين يأتي علي حسن المجيد ليتناول طعامه بشراهة وجثث القتلى متناثرة من حوله، بينما يرمي صدام حسين أحد منتقديه حياً إلى الكلاب الجائعة ويتلذذ بتعذيب معارضيه حتى الموت!

قبل فترة خرج علينا زعيم عربي (مُنَحّى) متفاخراً بأن حكومته «أرعبت العالم»! ولذلك وقف كثيرون ضدها وأسقطوها! كان يتفاخر بإرعاب الآخرين أو أنه يتخيل أن «رعباً ما» كان يحصل بسببه أو أنه يريد أن يجعل الآخرين يصدقون أنه قوي ومرعب وعليهم أن يحترموه وأنه بالتأكيد أفضل من خَلَفِه اللطيف الكيس المثقف وغير المرعب. بينما علّل «مفكر» سبب العداء لجماعته بأنها «تشكل خطراً على الآخرين»! ولا أدري لماذا يستغرب مثل هذا العداء لجماعة تشكل خطراً على الآخرين؟ أليس من الطبيعي أن يتنادى المُهدَدون إلى استهداف مصدر الخطر؟

يتفاخر آخرون بأن مرؤوسيهم «يرتجفون» لمرآهم وأن منافسيهم يحسبون لهم ألف حساب ويحيرون في كيفية التعامل معهم بما يرضيهم بينما لا يكترثون للكيّسين اللطفاء! ويسعى آخرون بقوة لنيل «الهيبة» ويسعون إليها حثيثاً ويغضبون إن لم يعاملهم الآخرون بالرهبة التي «تليق» بهم. البعض يسعى إلى ترسيخ الهيبة عبر المبالغة في الملبس والضيافة والمأكل ونوع السيارة وحتى طريقة السير، وعدم المبادرة إلى السلام على الآخرين واحترامهم، إذ يعتبرون الالتزام بهذه المظاهر مُضعِفاً لشخصياتهم ومقلِلاً من هيبتهم. فالشخصية تبنى فقط على حساب الآخر وليس بمعزل عنه أو التعاون معه. بعض العسكريين يمشي مختالاً ويداه مبتعدتان عن جسمه وكأن لديه مشكلة فيهما لكن الهدف هو «إخافة» الآخرين والتميز عنهم!

زعماء الطوائف وشيوخ العشائر والطرائق وأمراء القبائل يميلون إلى ارتداء زي مختلف كي يهابهم الآخرون إذ يعتقدون أنهم بحاجة إلى هذه الهيبة كي يبسطوا نفوذهم وآراءهم على أتباعهم ويميزوا أنفسهم ويزرعوا هيبة لهم في نفوس الآخرين، خصوصاً الأتباع.

إنها مشكلة ثقافية تؤثر على الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين وهي نتاج للإستعداد الثقافي عندنا لممارسة العنف. لذلك فهي تحتاج إلى معالجة مدروسة ومتأنية. لقد تربت شعوبنا على احترام المتشدد المتجبر المتجهم وعدم الاكتراث لمزايا التسامح والعفو واللطف والمرح والدعابة بل اعتبرت صفة الدُعابة من المثالب عند أحد القادة وتسببت في حرمانه من تولي الحكم لأن الدعابة واللطف والمرح واللين لا تعبِّر عن «القوة» التي يبحث عنها المجتمع والتي يُخيل لكثيرين أنها ضرورية للسيطرة على الشعوب.

ويرى كثيرون في مجتمعاتنا أن من الضروري تنفيذ العقوبات، كالإعدام أو الجلد وقطع اليد، أمام الناس كي «يتعظوا» و»يرتدعوا» عن ارتكاب الجرائم! وطالما سمعنا من الناس العاديين مطالباتٍ بإعدام مرتكبي الجرائم البشعة على الجسر الرئيسي أو في الأسواق العامة كي يطّلع الناس على القسوة المستخدمة ضدهم و»يفكروا ملياً قبل ارتكاب الجريمة». ينسى هؤلاء أنهم إنما يعرضون هذه البشائع على الناس المسالمين وليس المجرمين، ويجعلون منظر العنف مألوفاً عندهم، ما يسهِّل عليهم ممارسته مستقبلاً. لقد أشارت دراسات كثيرة إلى أن العقوبات الجسدية لم تردع المجرمين عن ارتكاب الجرائم وأن مستوى الجريمة لم ينخفض في البلدان التي تستخدم العقوبات القاسية كالإعدام مثلاً.

أما مناظر الذبح الذي تمارسه الجماعات الإرهابية وتصويرها وبثها عبر وسائل الاتصالات الحديثة فالهدف منها واضح، وهو إرعاب الآخرين وإرهابهم كي يسهل إلحاق الهزيمة بهم، وقد قالها قادتهم متفاخرين: «إننا إرهابيون ومرعبون». وفعلاً أخافت هذه الفظائع معظم الناس المسالمين وجعلتهم يستسلمون قبل استخدام القوة ضدهم 

الشعوب المتحضرة ترى عكس ذلك، فتعتبر أن ممارسة القسوة والعنف تجعل منها أفعالاً مألوفة لا يتردد من يعتاد عليها في ارتكابها، بل قد يشعر باندفاع نحوها لأنها أصبحت أفعالاً عادية. في بريطانيا مثلاً لا يحمل رجال الشرطة أي سلاح لإبعاد هذا المنظر عن أعين الناس كي لا يلجأوا إليه ولا يشعروا أنه خيار متوافر أمامهم. وكانت أول مرة حملت فيها الشرطة السلاح علناً في عهد قريب بعد اشتداد الإرهاب وانتشاره، ما اضطر بعض أفرادها إلى حمله في المطارات والأماكن الحساسة

ما زالت شعوبنا متمسكة بتقاليد وأفكار برهنت الدراسات والتجارب أنها ضارة بل مدمرة، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى التغيير الذي يجب أن يبدأ عبر برامج ثقافية وتربوية في المدارس والجامعات والمساجد ووسائل الإعلام. فهذه البرامج لم تعد ترفاً بل ضرورة ملحة لأن مستوى العنف بين الشعوب العربية تصاعد كثيراً خلال نصف القرن الماضي وهو في تزايد خطير بعدما أصبح مألوفاً ومبرراً.

http://alhayat.com/Opinion/Writers/9658792/مجتمعاتنا-وثقافة-إيذاء-الآخر