ليس لأنه نجل رئيس وزراء عراقي مثير للجدل، أو لأنه يجمع بين الثقافتين العربية والغربية اللتين سبقه إلى الجمع بينهما آخرون، لكن السلطة المعنوية الفريدة التي اكتسبها السياسي العراقي الراحل سعد صالح جبر لم تتوفر لأي من الزعامات العراقية خلال العقود الخمسة المنصرمة، وما كانت لتتحقق له لولا صفة الإيثار الطاغية على صفاته الأخرى، بينما ساعد وجود دكتاتور فريد كصدام حسين، الذي اضطر أكثر العراقيين إلى مناهضة حكمه، على ولادة الأبطال وكان سعد في مقدمتهم.

لم يسعَ أبو صالح، كما كنا نسميه تودداً له واحتراماً لكنية كان يعتز بها اعتزازه بوالده، إلى الزعامة السياسية، بل كان يبتعد عنها كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذه حقيقة لاحظتُها كصديق ومراقب، وقد طرحتُ عليه تساؤلاً حولها ذات مرة من دون أن أحصل على جواب مقنع سوى القول أنه لا يسعى إلى منصب بل إلى تحقيق هدف وطني نبيل وهو خدمة الشعب العراقي، فلا يهم من هو القائد والأهم ماذا يفعل.

مع ذلك كان سعد يتقدم صفوف المعارضة العراقية، ليس راغباً بل مضطراً، حتى اكتسب بحق ألقاباً عدة بينها «شيخ المعارضة العراقية» و «عميد الليبرالية العراقية».

وما ساعد في اتساع مقبولية سعد بين العراقيين أنه جمع أطراف العراق وثقافاته في شخصيته المحببة. فوالده، رئيس الوزراء الأسبق صالح جبر، من الناصرية في الجنوب ووالدته من الفلوجة في الغرب. وقد مكّنه موقعه المتميز من إطلاق المبادرات السياسية لتوحيد قوى المعارضة تحت رؤى وطنية مشتركة والعمل على تأسيس علاقات طيبة مع الدول الإقليمية والدولية، كونه يحظى بثقة معظم العراقيين، وقد نجح فعلاً في ذلك المسعى وكسب ثقة معظم الدول المعنية بالشأن العراقي، بما فيها الدول ذات السياسات المتباينة حول الشأن العراقي.

أسس سعد ودعم العديد من التجمعات السياسية والصحف العراقية المعارضة في لندن ودفع الرواتب للصحافيين والكتاب والمعارضين من ماله الخاص الذي كان وفيراً في السابق. في مطلع الثمانينات أسس «حزب الأمة الجديد» كاستمرار لـ «حزب الأمة» الذي كان يقوده والده، وأصدر جريدة سماها «التيار الجديد» التي توقفت بسبب نقص التمويل.

لكنه لم يعرف اليأس فواصل عمله المعارض حتى في أحلك الظروف. وفي التسعينات أسس «المجلس العراقي الحر» الذي شارك فيه سياسيون من مختلف التيارات في الساحة العراقية المعارضة وانتخب أميناً عاماً له، وأتبع ذلك بإصدار جريدة «العراق الحر» التي بقيت تصدر لعدة سنين وتوقفت مطلع الألفية الثالثة بعد نفاد أمواله.

حصل التغيير الذي عمل سعد بقوة من أجله في نيسان (أبريل) ٢٠٠٣، لكنه لم يحصل بأيدي العراقيين مثلما كان سعد يرغب، بل بالقوة العسكرية الأميركية، وقد أدى ذلك الحدث الخطير إلى تغيير الخارطة السياسية العراقية إذ تصدر المشهد قادة جدد، لكن سعد صالح جبر بقي يتمتع بزعامة معنوية لم ينافسه عليها أحد حتى وفاته الأسبوع الماضي.

وعندما عاد إلى العراق من منفاه البريطاني في ربيع ٢٠٠٤، استقبله الزعماء السياسيون في مجلس الحكم استقبالاً حافلاً واحتفوا به بما يليق بمكانته السياسية الرفيعة. وانضم أبو صالح إلى الحراك السياسي وأعاد تأسيس «المجلس العراقي الحر» في بغداد وأصبح عضواً في المجلس الوطني الذي خَلَف مجلس الحكم إبان الحكومة الموقتة بقيادة الدكتور إياد علاوي، إلا أن تقدمه في السن وغياب الطموح الشخصي عنده بتبوؤ موقع سياسي محدد، وانتشار الظاهرة الدينية السياسية وقفت كلها حائلاً أمام أن يكون له دور فعال في السياسة العراقية في حقبة ما بعد ٢٠٠٣.

إلا أن أبا صالح لم يفقد مطلقاً موقعه كزعيم معنوي، وخلال معرفتي به التي امتدت ثلاثين عاماً وتوثقت كثيراً بعد عودته إلى العراق، رأيت السياسيين من كل التيارات يلتقون في مجلسه الذي ظل متواصلاً في منزله المتواضع في المنطقة الخضراء ببغداد حتى قبيل وفاته. كان سعد رجلاً فخوراً معتزاً بنفسه، وعلى رغم ظروفه المالية الصعبة في سنواته الأخيرة، التي لم يطلع عليها إلا المقربون، فإنه لم يبدِِ أي هوان أو تراجع أو تشاؤم. فمن صفاته المميزة أنه كان متفائلاً حتى في أحلك الظروف.

كنت أزوره باستمرار، وفاء لتضحياته واستمتاعاً بأنس صحبته وقصصه الطريفة الكثيرة، ولم أتوقف عن زيارته إلا بعد أن رفضت إدارة المنطقة الخضراء تجديد بطاقة دخولي إليها أواخر ٢٠١٣ لسبب أجهله، ولكن بالإمكان تخمينه في ظل الاحتقانات العميقة وتبدل المسؤولين الإداريين، فاضطررت لأن أقلص زياراتي له وأكتفي بالاتصال الهاتفي أو الإلكتروني به أو بأفراد عائلته.

غادر سعد الحياة من دون أن يخلق عدواً واحداً، باستثناء النظام السابق الذي عادى معظم العراقيين ومعهم العالم أجمع، وهذه الميزة تقترب من المعجزة في عالم السياسة. كان صادقاً ومخلصاً في كل مساعيه ومشاريعه ومضحياً بماله ومخاطراً بسلامته من أجل الآخرين وما يعتقده حقاً. غادر الحياة ولم يترك وراءه مالاً على رغم امتلاكه الملايين، فقد أنفق ثروته التي جمعها من نشاطاته التجارية في الخارج على مشاريعه الوطنية التي لم يبتغِ من ورائها منصباً أو زعامة سياسية.

صادر النظام السابق بيت والده الكبير الواقع على نهر دجلة مقابل القصر الجمهوري، لكن النظام الجديد الذي ناضل من أجل تأسيسه لم يُعِده إليه، على رغم سعي البعض إلى ذلك بمن فيهم كاتب السطور، ولكن من دون جدوى. خلّف رحيله فراغاً كبيراً وألماً في نفوس من عرفوه وخبروه.

لقد أصبح سعد صالح جبر بطلاً دون سعي منه إلى البطولة، وزعيماً سياسياً أجمع عليه المتنافسون والمتناقضون، دون أن يسعى يوماً إلى زعامة. إنه إنجاز قلما يتوفر لأحد. لقد ترجل الفارس الذي أمضى حياته متفائلاً، في وقت لا تزال بشائر الاستقرار والخلاص من الإرهاب في بلده بعيدة.

http://alhayat.com/Opinion/Writers/8506843/سعد-صالح-جبر-إذ-يغادر-متفائلاً