رحيل الزعيم الوطني سعد صالح جبر  

غادرنا إلى العالم الآخر اخيرا عميد الليبرالية العراقية سعد صالح جبر، السياسي المخضرم الذي كان بمثابة الأب لكل العراقيين في المعارضة وبعد التغيير. تعرفت على أبي صالح في مطلع الثمانينيات إذ كان أول شخص من معارضي النظام السابق اتصل به بالإضافة إلى المرحوم السيد مهدي الحكيم، إذ كنت أبحث عنهما تحديدا في لندن، وشاءت الأقدار أن التقي بهما في يوم واحد في مقر السيد مهدي الحكيم في لندن.

من صفات الراحل المذهلة حقا أنه كان متفائلا طول الوقت وربما بقي هكذا حتى آخر يوم في حياته. تفاؤله، وهو الرجل المسن، كان يبعث فينا نحن الشباب (آنذاك) الأمل بالتغيير وبمستقبل أفضل في قادم الأيام.

أحببت سعد أكثر من أي شخصية سياسية أخرى لأنه تميز بالتواضع الجم وهو سليل عائلة مرموقة إذ كان والده رئيسا للوزراء في الأربعينيات من القرن الماضي، ولأنه لا يعرف اليأس مطلقا بل كان متفائلا وبشوشا طول الوقت. وأحببت سعد لأنه كان يحب الناس جميعا ولا يفرق بينهم على الإطلاق، بل أحب حتى من أساءوا له… كان منفتحا على الجميع وكان ينفق على مشاريع المعارضة العراقية دون حساب حتى نفدت أمواله كلها…

أكثر ما أحزنني خلال معرفتي لسعد خلال ثلاثين عاما، ولن أنسى ذلك ما حييت، هو عندما اتصل بي قبل عدة سنوات طالبا أن أزوره في منزله ببغداد ليبحث معي أمرا خاصا. ذهبت إلى منزله فقال لي إن راتبه التقاعدي لم يعد كافيا وإنه لم يعد قادرا على شراء الدواء المرتفع الثمن “فأرجو منك أن تكتب رسالة إلى رئيس الوزراء تطلب منه مساعدة مالية لهذا الغرض”.

حزنت كثيرا أن هذا الرجل الذي كان يمتلك الملايين ويقيم في قصر في (سان جونز وود) في لندن ويمتلك طائرة خاصة ويحرسه فريق من الخبراء الأمنيين البريطانيين الذين يدفع لهم من ماله الخاص طبعا، لم يعد قادرا على شراء الدواء في خريف عمره الذي أمضاه في خدمة العراق.

كتبت له رسالة تليق بمكانته الوطنية المرموقة وعندما قرأتها له قال لي: يا حميد أخشى أنهم لن يفهموا رسالتك لأنك لم تطلب فيها مالا بشكل مباشر. قلت له يا أبا صالح ليس من العدل أن نقول هذا صراحة فمكانتك الرفيعة لا تسمح بذلك واتمنى أن يقرأوا ما بين السطور. قال لي إن حالتي الصحية لا تتحمل أن نتوقع منهم أن يقرأوا ما بين السطور فاكتب لهم بصراحة ووضوح رجاء! فأعدت كتابة الرسالة حسبما ما أراد وعلمت لاحقا أن رئيس الوزراء استجاب لطلبه مشكورا.

حزني اليوم كبير بغياب أبي صالح رغم أنني كنت أتوقع أنه سيغادرنا يوما بحكم سنه المتقدم والمرض الذي الم به. تحية إلى ذكراه العطرة وإلى سجله الإنساني المشرف وتفاؤله المذهل وصموده البطولي

 وكرمه الأسطوري. لا يجود الدهر بأمثال سعد صالح جبر إلا نادرا.

 حميد الكفائي