مجلة الهدى-نيسان ٢٠١٥
دأب البعض على ممارسة الكذب من أجل (خدمة القضية) التي يؤمن بها أو يسعى إلى ترقيتها. وقد انسحب هذا المنحى على المجالات كافة فترى أن بعضهم يختلق الأكاذيب من أجل دفع الناس إلى الإيمان بقضية أو فكر ما وينسى المبدأ الأعمق وهو (لا يُطاع الله من حيث يُعصى) فالكذب ذنب كبير ويجلب مفسدة عظمى ولا يمكن أن يكون عاملا في (خدمة) أي قضية، فلا خير في إيمان يأتي عبر الخداع والتلفيق والغش.

وعلى سبيل المثال، فقد شاعت في السنوات الأخيرة مقولات منسوبة لمفكرين ومشاهير وقادة عالميين غادرونا إلى العالم الآخر مثل غاندي ومانديلا وجورج برنارد شو وغيرهم وكلها تشيد بهذا الرأي أو تعبر عن إعجابها بتلك الشخصية. لكنك عند البحث العلمي المنهجي تجد أن هذه المقولات هي مجرد أكاذيب وتلفيقات اختلقت، ربما بحسن نية، من أجل (خدمة القضية الفلانية) أو (تعزيز الإيمان بكذا)، وعند التدقيق تجد أنه لا غاندي قد قال كذا ولا مانديلا أو برنارد شو أعرب عن إعجابه بكذا. وقد وصف المفكر والشاعر الهندي محمد إقبال مثل هذه الأفعال بأنها “فساد في سبيل الله!”. 

ينسى ملفقو هذه المقولات أن من يصدق بها سوف ينقلب على عقبيه في أول لحظة يكتشف بها زيفها خصوصا عندما تكثر وتنتشر، وأن اكتشاف زيف أي شيء ليس صعبا ولا يحتاج إلى عبقرية نادرة بل مجرد توفر لحظة من الوعي ومراجعة النفس والتوقف عند المفاهيم والأفكار التي يؤمن بها الإنسان دون محاكمة أو تمحيص.

أتذكر أن كثيرين قد حصل لديهم انقلاب في الأفكار بعد أن أجروا مراجعة لأفكارهم التي كانت مبنية على أخطاء وأفكار هزيلة وغير حقيقية. أحدهم كان باحثا يتبع إحدى المدارس التقليدية لكنه اكتشف عندما أراد أن يبحث موضوعا ما بطريقة علمية أن كل ما يؤمن به كان خاطئا ولم يأتِ عبر البحث العلمي المنهجي وإنما عبر سماع الأقوال من فلان وعلان بل وحتى عبر قراءة الكتب التي ألفها أشخاص غير مؤهلين للتأليف أصلا.

أتذكر حادثة حصلت بعد احتلال العراق للكويت عام ١٩٩٠ بطلها السفير الكويتي في واشنطن. فقد أراد السفير إقناع الرأي العام الأمريكي بعدالة قضيته، وهي لا شك عادلة، فجاء بإبنته اليافعة لتمثل دور الطفلة التي كانت في المستشفى في الكويت عند دخول الجنود العراقيين الذين ادعت أنهم “أطفأوا الأجهزة الطبية وتسببوا في قتل الأطفال”! وقد أجهشت  بالبكاء كي تقنع أعضاء الكونغرس والرأي العام الأمريكي بما حصل والذي لم يحصل أصلا لأن الشابة التي روت القصة الملفقة كانت تعيش في أمريكا مع أبيها السفير وكانت تتحدث بلهجة أمريكية واضحة. وعندما افتضح أمر تلك القصة أصبحت فضيحة كبرى في أمريكا والعالم العربي وأدت في النتيجة إلى تدمير سمعة وصدقية السفير الذي انتهى سياسيا حتى بعدما عاد إلى بلده الذي كان يدافع عنه بحسن نية ولكن عبر أساليب غير أخلاقية… 

لم تكن عملية فضح نظام صدام حسين بحاجة إلى اختلاق الأكاذيب، فما أكثر الحقائق  المذهلة التي يمكن أن تروى للرأي العام الدولي لإقناعه ببشاعته وفظاعة جرائمه بدلا من اختلاق الأكاذيب والإتيان بممثلين لا يجيدون التمثيل أصلا.

نسمع هذه الأيام الكثير من القصص عن فظائع داعش والجماعات الإرهابية في الموصل وتكريت والأنبار وبعض هذه القصص، أكرر كلمة بعض، إما مختلق أو مبالغ فيه. لا أشكك بنوايا مطلقي تلك القصص (أو ملفقيها) ولكن عليهم أن يعلموا أن اختلاق القصص لا يخدم أي قضية لذلك يجب الالتزام بالمعايير المهنية والاخلاقية في رواية الأخبار كي يعرف الناس حقائق ما يجري. نحن نعلم أن مجرمي داعش لا يتورعون عن ارتكاب أي موبقة وجريمة وتلك جرائمهم الحقيقية خير شاهد على فظائعهم، ولكن دعونا نكون ملتزمين بالحد الأدنى للمعايير الأخلاقية وننصف حتى العدو عبر نقل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة لأن اختلاق القصص ليس فيه نفع لأحد لأنه لا يخدم المعرفة ولا يعزز إمكاناتنا في محاربة العدو بل يجعلنا ندور في حلقة مفرغة ليس لها نهاية.