المثقف بين التعريفات والادوار- عقيل عباس

مجلة (شبابنا)، نيسان، 2014.
ايجاد تعريف للثقافة، ومن ثم المثقف، ومعرفة دورهما في المجتمع من بين الاسئلة القديمة التي تُعاد اثارتها  بين حينٍ واخر. يربط الكثيرون الثقافة بامتلاك المعلومات وتنوعها واتساعها وبالتالي فالمثقف هو من يمتلك معلوماتٍ كثيرة ومختلفة. هذا التعريف الشائع مرتبط بفهم كلاسيكي وتقليدي للثقافة ساد لفترة طويلة جداً من الزمن، ليس في العراق والشرق الاوسط فحسب، بل في كل العالم تقريباً وبضمنه اوروبا وبقية العالم الغربي. إنه الفهم الموسوعي الذي يرى ان مهمة المثقف هي “معرفة شيء عن كل شيء وكل شيء عن شيء واحد”.

عند تفحص هذا التعريف ملياً يظهر جموده لأنه يحول المثقف الى وعاء سلبي حامل للمعلومات من دون وجود رؤية او قدرات مثمرة او منتجة تقدم نفعاً ملموساً للمجتمع او ترسخ مفاهيم ايجابية من اجل الصالح العام. فضلاً عن ذلك، اصبح استيفاء شروط هذا التعريف صعباً جداً في عصرنا الحاضر  بسبب تنوع المعارف والعلوم واتساعها على نحو يجعل من المستحيل المعرفة عنها جميعاً سواء بشكل تخصصي او عابر.

عندما برز  هذا التعريف الموسوعي للثقافة في فترة العصور الوسطى كان عدد المعارف والعلوم محدوداً ولم يكن صعباً  الاحاطة بها، لكن منذ القرن الثامن عشر  وبروز انواع جديدة من المعارف، وظهور مفهوم  التخصص، خصوصاً في الحقول الانسانية كالاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا وغيرها، لم يعد هذا التعريف الموسوعي للمثقف  صالحاً او مناسباً تدريجياً بدأت تظهر تعريفات اخرى، قد يكون الابرز بينها التعريف الذي يؤكد على قدرات التحليل لدى المثقف وليس على كمية المعلومات التي يحملها. بهذا المعنى، تصبح مهمة الثقافة هي تزويد متلقيها، اي المثقف، بأدوات التحليل التي يؤدي تطبيقها على وقائع المجتمع والحياة الى خلق وعي جديد ومتقدم  بهذه الوقائع  يتجاوز ما هو مألوف وسائد وتقليدي. حسب هذا التعريف اذن، يصبح المثقف هو الشخص حامل الرؤية  المستندة على مهارات تحليلية قادرة على تجاوز اللحظة الراهنة، ومعها تجاوز الفهم الشائع والتقليدي والمعتاد لتجارب الناس والمجتمع، من اجل التوصل الى فهم جديد وافضل واعمق لهذه التجارب.

يؤكد هذا الفهم للثقافة على الانتباه  للعلاقات والظواهر والدلالات الكامنة في هذه التجارب، وبالتالي هو يهدف الى سبر غور هذه التجارب والمساهمة في تطويرها ايجابياً وتجنب السلبي منها او تجاوزه. بمعنى اخر، الثقافة هي توظيف المعارف ومهارات التحليل، وليس مجرد الحصول عليها، من اجل تشكيل فهم عميق وذكي لواقع الناس والمجتمع للمساهمة في  بناء حياة افضل واكثر انسانية واخلاقية وقبولاً للاختلاف والتنوع. على مدى العقود القليلة الماضية، بدأ يترسخ مفهوم اخر للثقافة يختلف عن المفهومين السابقين، الموسوعي والتحليلي. هذا المفهوم الحديث، الذي برز اولاً  في الغرب، يؤكد على الجانب الوظيفي للثقافة واثرها الجمعي، ويتعامل معها على اساس انها ممارسات عامة وليست مهارات فردية تتمتع بها القلة المثقفة. 

مثلاً، يركز  هذا الفهم الجمعي للثقافة على اهمية الدور الذي تلعبه المؤسسات العامة في نشر قيم الثقافة وترسيخها، من خلال انشطة وممارسات ثقافية تشمل شرائح اكبر في المجتمع، كما في الذهاب الى المسارح ودور السينما ومشاهدة الافلام وحضور معارض الكتاب والرسم والجلسات الثقافية والعمل التطوعي لخدمة اغراض انسانية كبرى. كل هذه الفعاليات وسواها ذات الطابع الانساني والجمالي  العام تُنمي الحس الثقافي لدى المشاركين فيها وتخلق مشتركات مهمة بينهم. يبتعد هذا الفهم للثقافة عن الطابع “الفكري” للتعريفين السابقين  اللذين يقومان على  القراءة والبحث والتخصص، لصالح التأكيد على الانماط السلوكية ذات الطابع الثقافي التي تعمق ما هو انساني وجمالي ومُشترك بين الناس. 

عبر هذا الفهم الحديث للثقافة تستطيع الدولة والمؤسسات الرسمية والاهلية ان تؤثر ايجاباً في نشر الطبائع والسلوكيات الثقافية المناسبة بين الناس. الغرض الاساسي من هذه الانشطة الثقافية العامة هو نشر وترسيخ القيم المدنية في المجتمع والتأكيد على المشتركات الانسانية والوطنية بين افراده. تبرز الاهمية الخاصة لهذا النوع من الثقافة في المجتمعات التي عاشت او تعيش صراعات داخلية عميقة، اذ يساهم نشر القيم المدنية ذات الطابع الانساني والوطني في التخفيف من حدة هذه الصراعات ويساعد على تجاوزها.

في العراق بشكل عام ساد التعريفان السابقان للثقافة، الموسوعي والتحليلي. تاريخيا، هيّمن في العراق، بامتداده الاسلامي والعربي، التعريفُ الموسوعي للثقافة  ويتضح هذا خصوصاً في التنوع المعلوماتي والموسوعي في اعمال المؤلفين والمثقفين في البلد بدءاً من العصر العباسي حتى القرن العشرين. فمثلاً  نجد ان الجاحظ كان فيلسوفاً ومؤرخاً واديباً وفقيهاً في ذات الوقت، فيما كان الفراهيدي لغوياً وموسيقياً واديباً. وعلى مدى قرون طويلة كان المثقفون موسوعيين في معارفهم ونتاجاتهم، واستمر هذا النمط حتى بعد عقود من تأسيس العراق الحديث، فمعروف الرصافي كان مؤرخاً وشاعراً وناقداً وسياسياً فيما كان خصمه التقليدي جميل صدقي الزهاوي فيلسوفاً وصحافياً وسياسياً وشاعراً وبالتالي يشترك الاثنان في تاكيد الجانب الموسوعي والمعلوماني للثقافة. 

لكن بحلول الخمسينات من القرن الماضي بدأت الصورة تتغير تدريجياً  على اثر بروز الثقافة كأداة تحليل وفهم اساساً. ساعد في هذا البروز تعلم اللغات الاوروبية والتأثر بالثقافات الغربية وانتشار التعليم والكتاب بتطور الطباعة لتنتشر بذلك المعرفة على نحو اكبر مما كان سائداً في عهد الثقافة الموسوعية التي تميزت بصغر  حجم جمهورها.

ثقافة التحليل انفتحت على العالم الخارجي، غير الاسلامي وغير  العربي، على نحو غير مسبوق وساهمت في ايصال تجارب جديدة على وعي قراء الثقافة في البلد، وبالتالي المساهمة في تحقيق المزيد من الانفتاح الاجتماعي والثقافي في البلد. لكن بروز الثقافة كتحليل، وليس كمعلومات، تَصادفَ لسوء الحظ مع  زمن سياسي عراقي اتسم بالعنف والصراع وفيما بعد، بدءاً بعقد السبعينات، بهيمنة الدكتاتورية التي نظرت بريبة لهذه الثقافة وعاقبت رموزها وحاصرت جمهورها سعياً لتكريس ثقافة ايديولوجية قمعية وصارمة تخدم السلطة وليس المجتمع. انهيار النظام السياسي الداعم لهذه الثقافة الأيديولوجية الصارمة في عام ٢٠٠٣، فتح البلد امام خيارات جديدة، لكن الدمار الاجتماعي الذي خلفه هذا النظام وثقافته المتسلطة، فضلاً عن التحديات الامنية والسياسية التي واجهها النظام الجديد جعل هذه الخيارات تتراجع لصالح هيمنة  ثقافة الخوف والعنف والكراهية في السنوات الاولى التي تلت الاطاحة بنظام صدام. الان وبعد ان اجتاز البلد مرارة تلك السنوات، وبدأت الثقافة بشكلها العام تسترد شيئاً من عافيتها (رغم اتساع التحديات الظلامية والمناهضة للثقافة)، لا بد من التأمل بدقة في الدور الذي يمكن تلعبه لتطبيب جروح وحروق عقود الدكتاتورية والصراع الطائفي والاهلي التي يعيشها البلد.

عراق اليوم بحاجة اكثر من اي وقت مضى للثقافة بكل اشكالها، خصوصاً التحليلية والمدنية، لنشر قيم التسامح والقبول بالاختلاف والتمسك بالمواطنة العراقية كجامع اساسي ومهم يربط العراقيين جميعاً.  يتطلب هذا الامر التركيز على النشاطات الثقافية ذات الطابع الانساني والمدني ونشرها  لجعلها بمتناول اكبر عدد ممكن من العراقيين. ومثل هذا التركيز لا يمكن ان يبرز او تأتي ثماره من دون التزام حقيقي من الدولة والمنظمات الاهلية والمؤسسات الثقافية ببذل اقصى الجهود لنشر القيم الانسانية والمدنية من اجل عراق يضمنا جميعاً.