مجلة الهدى-شباط ٢٠١٥

نحن شعب مغرم بنشر الصور والملصقات الكبيرة والأعلام الخفاقة والشعارات البراقة، فأينما تذهب تجد الصور والأعلام مرتفعة في الشوارع والحدائق ومعلقة على أعمدة الكهرباء والهاتف وترفرف فوق المباني وأمامها وخلفها وعلى جذوع النخيل وأغصان الأشجار. لم نكتفِ بعلم العراق وصور الزعماء والعظماء والفنانين بل أضفنا إليها صور رجال الدين الأحياء منهم والاموات والشهداء والأئمة والصالحين من كل العصور والأزمان والثغور والبلدان حتى أصبحت الصور تغطي الأشجار والأزهار وإشارات المرور وواجهات المباني وأسماء المدن والأحياء والشوارع والجسور وتختلط مع توجيهات وعلامات السير.

لا أحد ينكر على الآخرين أن يرفعوا صور من يحبون ويبجلون فهذا من حقهم ولكن يجب أن يبقى الفضاء العام عاما وليس لشخص أو مجموعة معينة تستغله لصالحها دون أذن أو رضا الآخرين، فالصورة التي تعجبني قد لا تعجبك والشخص الذي أبجله وأحترمه قد لا يحظى بنفس القدر من التبجيل والاحترام عند آخرين والعَلَم الذي أجله وأحترمه قد لا يحمل المضامين نفسها عند جاري وصديقي وزميلي في العمل أو الدراسة والشعار الذي أرفعه وأعتز به قد لا يعتز به غيري ولا يؤمن به. وما زلنا في دولة ديمقراطية فإن حق الاختلاف والتنوع يجب أن يكون السمة الأبرز فيها، ومن هنا يفترض بنا ألا نفرض على الآخرين خياراتنا وآراءنا ومعتقداتنا.

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الصور والملصقات والأعلام اصبحت سببا من أسباب حوادث السير لأنها تدعو السائقين إلى النظر إليها أثناء قيادتهم عجلاتهم ما يشتت تركيزهم ويجعلهم يدهسون المارة أو يصطدمون بمركبات أخرى تستخدم الطريق نفسه، وهذه ليست تصورات وآراء دون دليل بل هي سائدة في الدول الأخرى التي تُنظِّم تعليق الإعلانات والصور وتضعها في أماكن لا تؤثر على مستخدمي الطرق.

في الدول المتقدمة لا يسمح برفع صورة أو ملصق أو إعلان في مكان عام  دون إذن من البلدية ومن حق الدوائر الأخرى كدائرة المرور أن تعترض إن كان ذلك سيربك حركة المرور، أما في الأماكن الخاصة فيجب استحصال  موافقة صاحب الأرض أو المبنى الذي ستُرفع فيه، والسبب هو أن هناك تبعات لرفع الصور والعلامات واللافتات الكبيرة وهي أنها قد تضر بالمصلحة أو السلامة العامتين أو تخالف الذوق العام أو الخاص أو تمنع التمتع بمناظر الحدائق والشوارع والمباني. فالصورة أو الإعلان الكبير قد يحجب الرؤية أو يشتت ذهن السائق أو عابر الطريق أو يمنع السائق من رؤية علامات المرور ما يؤدي إلى إرباك وزحام وحوادث.

أتذكر أن حقلا لتربية الأسماك يقع على مقربة من أحد الطرق السريعة غربي لندن لكنه لم يضع أي إشارة أو علامة تحمل اسمه وتشير إلى خدماته أو تعلن عن وجوده قرب الشارع المؤدي إلى موقعه ما يزيد من صعوبة الوصول إليه دون معرفة مسبقة بموقعه. وعندما استفسرت من إدارة الحقل عن السبب قالوا إن البلدية منعتهم من وضع علامة تشير إلى الحقل أو تخبر عن وجود سمك للبيع فيه، لأن أي قطعة أو علامة كبيرة سوف تشتت تركيز سائقي المركبات المارة في الطريق السريع المجاور وقد تؤدي إلى وقوع حوادث سير. فالبلدية هناك تنظم حتى علامات المحال التجارية والمباني وتمنع تلك التي تشكل خطرا أو أذى على الآخرين.

يتساءل عراقيون كثيرون عن الهدف من كل هذه الأعلام والبوسترات والصور الكبيرة المنتشرة في كل حدب وصوب من العاصمة والمدن الرئيسية الأخرى، والتي تزداد كثافتها باستمرار، وهل هي فعلا تقدم خدمة ما لأحد، سواء لأصحابها أو واضعيها أو الجمهور المتلقي المتضرر منها والذي لا رأي له فيها؟ وحتى القنوات التلفزيونية أصبحت تضع بوسترات عملاقة لمقدمي بعض برامجها في كل مكان من العاصمة. 

أثبتت تجارب الدول الأخرى أن كل شيء مفروض على الناس يؤدي إلى نتائج عكسية. فقد يرضخ الناس لما يفرض عليهم ولكنهم لن يُعجَبوا أو يستجيبوا أو يتفاعلوا في أعماقهم مع أي دعوة مفروضة عليهم ولا يؤخذ رأيُهم فيها ولا يرون مصلحة لهم فيها. وإن كان هناك من يستجيب فإن عدد الذين يستاؤون من هذه النشاطات غير المدروسة يعادل عشرات أضعاف المعجبين.

وبالإضافة إلى كل هذه (الإعلانات) السياسية والدينية والعسكرية والتجارية فإن بعض إعلانات الدعاية الانتخابية السابقة ما زال قائما خصوصا الصور العملاقة لبعض رؤساء القوائم الانتخابية التي لم تُزَل كليا حتى الآن من الشوارع والمباني وبعض نقاط التفتيش في الطرق السريعة، ويتساءل المرء عن الهدف من إبقائها بعد مرور ما يقارب العام على الحملة الانتخابية. هناك حاجة لأن تكون هناك لافتات من نوع آخر في المدن تنبه الناس وترشدهم إلى أمور يجهلونها في كافة مناحي الحياة خصوصا الصحة، لكن مثل هذه اللافتات أما قليلة أو منعدمة حاليا بسبب كثرة اللافتات الأخرى التي تحدثنا عنها. 

اللوم الأكبر يقع على الإدارات البلدية التي تهمل واجبها في الحفاظ على نظافة وجمال الشوارع والمباني والحدائق العامة وصفاء الذوق العام وسلامة المواطنين. لكن كثيرا من اللوم يقع أيضا على الجهات التي تنشر هذه الصور والملصقات والبوصترات واللافتات والإعلانات دون أن تدرس جدواها ومدى النفع المتحقق منها.

لم يعترض على هذه الظاهرة ويأمر بإزالة صوره سوى السيد مقتدى الصدر وهو في الحقيقة يستحق التحية والشكر والإعجاب على تواضعه وذوقه الرفيع. رجال الدين والمراجع العظام لم يطلبوا من أحد أن يضع صورا عملاقة لهم في الشوارع والمباني فالمعروف عنهم هو الورع والتواضع والتقوى، والدليل أن كثيرا من الصور هي لمراجع غادروا الدنيا إلى العالم الآخر منذ زمن بعيد تغمدهم الله بواسع رحمته. يجب أن نحتفي بعظمائنا وقادتنا بما يرضيهم ويليق بمكانتهم ويتفق مع المبادئ التي يؤمنون بها.

بإمكان أي شخص أن يضع الصور التي تعجبه في بيته أو في الأماكن التابعة له شخصيا، أما الفضاء العام، سواء كان شوارع أو حدائق عامة أو دوائر رسمية، فهو للجميع ويجب ألا يتحكم به أحد غير الجهات الرسمية المختصة المحايدة.

الصور لا تزيد القادة شعبية فهي لا تنشر أفكارهم ولا تبين مواقفهم بل إن مردودها عكسي حسب دراسات واستطلاعات للرأي، بالإضافة إلى الأضرار الأخرى التي تتسبب بها والتي تحدثت عنها سابقا. يجب أن تكون هناك مبادرة لتنظيم هذه الأمور كي لا تبقى مدننا وشوارعنا ممتلئة بالأعلام والصور والبوصترات بشكل عشوائي يشوه منظر المدينة ويعطي انطباعا بأننا غير منظمين وغير مكترثين للنظام والذوق العام ولا يهمنا الرأي الآخر وكل منا يغني على ليلاه. مثل هذه المبادرة ربما تبدأ بأن تقوم أمانة بغداد وبلديات المحافظات الأخرى بتنظيم هذه الظاهرة كي لا تبقى عشوائية وأن يتطوع القادة إلى توجيه أتباعهم برفع الصور واللافتات والأعلام إلا تلك التي أجازتها الجهات البلدية، وبذلك نقدم صورة أكثر إشراقا عن مدننا وذوقنا وإبراز احترامنا للتنوع وآراء وخيارات بعضنا البعض. يجب التأكيد على أن الفضاء العام هو لنا جميعا وليس لقسم منا كي يتحكم به حسب هواه ودون إذن من الجهات الرسمية التي تمثلنا جميعا.

 حميد الكفائي