مجلة الهدى-شباط ٢٠١٥

منذ اثنتي عشرة سنة وبغداد تئن تحت وطأة حظر التجوال الذي فُرض عليها بسبب الإرهاب، لكنه لم يمنع الإرهاب مطلقا بل استمرت التفجيرات تلاحق تجمعات الناس في كل مكان، فأصبح البغداديون ومعهم العراقيون في المدن الأخرى يعانون من وطأتين في آن. الإرهاب وحظر التجوال. لذلك احتفل البغداديون برفع أحد هذين القيدين الثقيلين على حريتهم.

 حظر التجوال كبّل بغداد، المدينة التأريخية الجميلة، وأهلها الصامدين بقيود ثقيلة، فلا غرابة إذن في البهجة التي أبداها البغداديون برفعه، فهي طبيعية جدا فلا يمكنُ السجينَ إلا أن يفرح عندما يُطلق سراحُه وكان البغداديون كانوا سجناء في بيوتهم بسبب الحظر، على الأقل لجزء من اليوم.

مرة أخرى أقول إن حظر التجوال الليلي لم يمنع الإرهاب خلال السنوات الاثنتي عشرة المنصرمة، بل ربما ساعد في تحقيق مآرب الإرهابيين من خلال التسبب في زحامات خانقة أصبحت هدفا للإرهابيين لأنها تجمَع لهم عشرات الأشخاص والعجلات في مكان واحد مما يسهِّل استهدافهم وقتلهم غيلة.

ولطالما طالب الناس في أنحاء العراق المختلفة برفع هذا الحظر المزعج والمربك للحياة والمقيد للحرية والضار بالعلاقات الاجتماعية والمتسبب في تقليص النشاط الاقتصادي وجعل الحياة أكثر حزنا وتعاسة وضيقا. 

لكن صرخات العراقيين المدوية برفع الحظر ذهبت أدراج الرياح طوال السنين الفائتة ولم يسمعها أحد من المسؤولين الكبار ممن بأيديهم الحل والعقد، والحمد الله فقد جاء من يستمع إلى شكاوى الناس ومشاكلهم ويرفع عنهم هذا الكابوس الذي اقترن بالإرهاب. 

لقد كتبتُ في هذه المجلة وغيرها ضد الحظر وطالبت برفعه مرات عدة كان آخرها قبل عدة أشهر، وأنا اليوم سعيد جدا لسعادة البغداديين، وأنا منهم، بالحرية الجديدة التي اقترنت مع فتح الطرق والشوارع أيضا.

المدن العظيمة لا تنام ليلا وهذه الصحوة المتواصلة ليست بطرا وإنما ضرورة من ضرورات الحياة العصرية. نيويورك لا تنام مطلقا وشارع (برودواي) وساحة (تايم سكوير) مليئة بالناس طوال الليل حتى أن هناك من يبيع المشويات الشرقية في مناقل متحركة في الشوارع. بيروت لا تنام وشارع الحمراء لا يهدأ ليلا وهناك محلات ومطاعم ومقاه ونواد لا تغلق أبوابها. القاهرة لا تنام بل تكاد ساعات الليل والنهار تتساوى في زحامها، فمناطق خان الخليلي وسيدنا الحسين وشوارع أخرى معروفة تبقى صاخبة بالحركة والمتسوقين… دبي هي الأخرى مستيقظة دائما وهناك مناطق لا تتوقف فيها الحركة مطلقا مثل الديرة وشارع المطينة وغيرها بالإضافة إلى أن معظم الفنادق والكثير من المطاعم تبقى مفتوحة طوال الليل.

لندن لا تنام أبدا فشوارع أجوير رود وبيزووتر وأيرلسكورت وحي سوهو ومدينة الصين مزدحمة ليل نهار ومحلات تسكو وسينزبريز وكوستكو وغيرها تبقى مفتوحة طوال ٢٤ ساعة في كل المناطق وليس فقط في مركز العاصمة. بروكسل تبهرك بحركتها في الليل، والمحال الشرقية والغربية، من مقاه ومطاعم، متواصلة النشاط فيها… روما مبهرة في الليل وساحاتها الكثيرة، خصوصا بيازا نوفانا، مليئة بالناس من فنانين وسواح وأهل البلد، بل وحتى مدن أخرى في إيطاليا مثل فلورنسا تبقى مستيقظة حتى ساعات متأخرة من الليل. والحال نفسه ينطبق على باريس وأمستردام وبون وطوكيو وساو باولو وسيدني ومكسيكوسيتي وبودابست وسكوبيا وبراغ وديترويت ولوس أنجليز وتورنتو والرباط وفاس والدار البيضاء ومدريد وبرشلونة وبالتأكيد اسطنبول وأنقرة…

الحركة بركة وسعادة للناس جميعا وكثيرون من العمال والكسبة والتجار والمهنيين يحققون فيها مكاسب مالية، لذلك فهي تدعم الاقتصاد وتوفر العمالة للكثيرين من العاطلين، بينما يحقق الآخرون فيها سعادة معنوية لأنها تتيح لهم المزيد من الحرية. 

لقد كان قرار فرض الحظر الذي اتخذه الجيش الأمريكي خاطئا وقد تأكد خطؤه أكثر فأكثر بعد مرور اثني عشر عاما لكن الغريب أنه بقي طيلة هذه الفترة أمرا مقدسا لا يحق لأحد أن يناقشه.

إلا أن رفع الحظر لا يأتي دون ثمن وعلى القوى الأمنية أن تستعد بقوة للوضع الجديد لأن مسؤوليتها الأمنية أصبحت أكبر. كثيرون من المواطنين كانوا ينامون مطمئنين لأن لا أحد يتحرك أثناء الليل، لذلك أصبح من الضروري طمأنتُهم أنهم في أمان وأن القوى الأمنية سوف تسهر على أمنهم وحماية أرواحِهم وممتلكاتهم وكرامتهم وأن من يتحرك بعد منتصف الليل يمكن أن يخضع للمساءلة للتأكد من أن تحركَه هو لشأن مشروع وليس لغرض إرهابي أو إجرامي. الإرهابيون سوف يحاولون أن يدفعوا الحكومة لفرض الحظر مرة أخرى لأنهم أعداء للحرية والسعادة ولا يريدون أن يروا الناس مرتحين وسعداء. وأتمنى على الحكومة ألا تعيد الحظر مهما فعل الإرهابيون الذين سيندحرون إن عاجلا أم آجلا.

نعم مواطنونا فرحون برفع الحظر عن حركتهم ونتمنى من أجهزتنا الأمنية أن تديم الفرحة من خلال اليقظة المستمرة وتفعيل العقل والخبرة في ملاحقة المجرمين والإرهابيين وليس فقط إغلاق الشوارع ونشر قوات الجيش والشرطة. رفع حظر التجوال خطوة مباركة ونأمل أن تكون الخطوة المقبلة للحكومة إلغاء المنطقة الخضراء التي تعزل المسؤولين عن باقي الناس وتتسبب في إحداث هوة كبيرة بين الطبقة الحاكمة وأبناء الشعب. بإمكان الحكومة أن تحمي نفسها دون اللجوء إلى إحاطة نفسها بسياج كونكريتي ومائي.