الحياة اللندنية-الأحد, 22 مايو 2011
الجميع يلعن المحاصصة الطائفية والسياسية في العراق، ويذمها ليل نهار ويعزو إليها الفساد والتدهور الخدمي والأمني وكل المشاكل الأخرى، وحتى الآن، لم يفصح سياسي واحد عن تأييده العلني لها، حتى ممن جاؤوا عـبرها ولن يكون لهم شأن دونها. لكن الجميع، حتى الصاخبين في إدانتها والمتململين (رسمياً) منها، متمسكون بها وساعون إليها ومحتجون على عدم تطبيقها بأدق التفاصيل وفي كل المواقع، ومطالِبون بحصة كل منهم في الكعكة، مهما صغرت هذه الحصة، ولكن ليس في العلن، بل بعيداً من أعين الناخبين. المحاصصة كالبصل: «مأكول مذموم». ولكن إلى متى يمكن الاستمرار بهذه اللعبة؟

لقد اتضحت تلك المحاصصة السياسية – الطائفية المعمول بها منذ مجلـس الحـكم حـتى الآن خلال عملية تشـكيل الحكومة الأخيرة التي دامـت تـسـعة أشهر. وعـلى رغم فوز القائمة العراقية بالعدد الأكبر من المقـاعد إلا أنهـا حُرِمت من حق تشـكيل الحكومة وفق المادة 76 – أولاً مـن الدسـتور والسبب هو أن غالبيتها السياسية لم تكن من الغالبية الطائفية في الـبـلد وقد جُـندت لتلك المعركة المعيبة، التي خيضت باسم الديموقراطية، كل الأسلحة الـسـياسية والـقضائية والـديـنيـة والمذهبية والمناطـقـيـة واُسـتُفِزّت لها كل العصبيات الطائفية والمـنـاطـقـية والعشـائـريـة واسـتخدمت فيها جميع أنواع المناورات والضغوط المشروعة وغير المشروعة حتى تــشكلت حـكـومـة منـتـفـخـة عـرجـاء من جميع الكتل السـياسية (باسـتثـناء واحدة)، لكنها، ولأسباب جلية، لا تمثل إلا واحدة منها هي كـتـلة دولـة القـانـون بـزعامة رئيس الوزراء، وكل من هم خارج هذه الكتلة يشكون التهميش.

وفي «معركة» نواب الرئيس التي دامت ستة أشهر، استُخدمت الطائفية تارة والقومية تارة أخرى، وأخذت القوى السياسية تتصارع من أجل هذا المنصب الشرفي، فالتركمان والمسيحيون والنساء والسنّة والشيعة كلهم أرادوه لهم. وقد وصل الجدال إلى حد ترشيح خمسة نواب لرئيس الجمهورية من أجل إرضاء جميع الأطراف. أشد الاعتراضات ضراوة كان على تولي وزير التربية ورجل الدين السابق، خضير الخزاعي، هذا المنصب. وأسباب الاعتراض متعددة منها رفـض كثيرين أسلوبه في إدارة وزارة التربية الذي عمّق الطـائفية في البلاد في رأي كثيرين، بمن فيهم مراجع دين شيعة، واعـتقاد آخرين أنه قريب من إيـران وكـونـه متشدداً طـائفيا ودينياً ولا يـزال يـمـارس نشاط الوعظ الديني. ولم يألُ السيد الخزاعي جهداً في توظيف كل الأسلحة المتاحة أمـامه لـتـذليل مـصاعبه وأولها وأسهلها طبعا سلاح الطائفية. فقد صرح بأن الشيعة هم «غالبية» في العراق والهدف طبعاً واضح وهو دغدغة مشاعر بعض الـبسطاء الذين عـانوا سابقاً من التهميش وتوظـيف هـذه الـمشاعر الـبريـئـة فـي مـعركته الشخصية من أجل المنصب، وإلا ما الذي سـتسـتـفـيده «الغالـبـية» الشيعية من تولي خضير الخزاعي منصباً شرفياً لا فـائدة فـيه إلا لشـاغـلـه؟ الحـقيقة أن الـغـالـبـية ومعها كل «الأقـلـيات» ستتضرر لأن هذا المنصب يكلِّف الدولة ملايين الدولارات سنوياً من دون أن يقدم خدمة تـذكر، و الغالبية» ستتحمل معظم هذه التكاليف. ثم ما الذي حصلت عليه الغالبية التي يلهج بذكرها الخزاعي من توليه وزارة التربية لخـمـس سنوات غير الأذى والاحتقان الطائفي ومزيد من العنف والإرهاب؟ أما السيد عادل عبد المهدي الذي كسب احترام الجميع عندما أعلن أنه لا يرغب في التجديد، فعاد وتولى المنصب وبرهن بذلك أن «زهده» المعلن كان للاستهلاك السياسي وأنه، كغيره، يسعى للمنصب لأسباب شخصية. أما السيد طارق الهاشمي الذي حاز على ما يقارب المئتي ألف صوت في بغداد فأضاعها بتولي منصب شرفي لن يتمكن من خلاله أن يقدم شيئاً لناخبيه ما سيكلفه غالياً في المسـتقبل. لقد أساء النواب الثلاثة لأنفـسهم ولناخبيهم بإصرارهم على تولي منصب نائب الرئيس، وأحسب أنهم لن ينهضوا من هذه الكبوة التي أضرت بمستقبلهم السياسي والتي ستبقى تلاحقهم لسنين مقبلة.

وإن كانـت معركة نواب الرئـيس قد حسمت وأصبح للرئيس الـشـرفي ثـلاثـة نواب «يعينونه» على أعباء رئاسته، فإن معركة تعيين الوزراء الأمـنـيـيـن لا تزال مـستـعرة وفـيها تـتـضح الـمحـاصـصـة الطـائفية في أجلى صورها. وإن كان أحد لا يـعـلن أنـه مع المحاصصة، يُسجل للسيد نوري المالكي شرف السبق في هذا الإعلان إذ إنه عبّر قبل أيام بصراحة ووضوح (يحسبان له) عن تمسكه بالمحاصصة الطائفية تحديداً، قائلاً إن منصب وزير الدفاع هو من حصة «المكوِّن» السنّي وليس بالضرورة من حصة القائمة العراقية وإن من حقه أن يختار شخصاً سنّياً لملء الشاغر حتى وإن لم ينل ذلك موافقة شركائه، باعتبار أن المنصب طائفي وليس سياسياً. وقد رشح المالكي وزير الثقافة الحالي السيد سعدون الدليمي، الذي كان تولى المنصب لبضعة أشهر عام 2005. وعلى رغم أن القائمة العراقية هي الأخرى قدمت للسيد المالكي عدداً من المرشحين (السنّيين) لشغل هذا المنصب إلا أنه على ما يبدو لا يثق بأي مرشح يقدمه شركاؤه في السلطة ما يعني أن لديه خططاً تتعلق بوزارة الدفاع وهو يخشى ألا تمضي هذه الخطط إن هو عيّن وزيراً غير موالٍ له.

إذاً، السياسيون متمسكون بالمحاصصة على رغم اعترافهم بأنها مضرة بمصلحة البلاد وتؤسس لمجتمع يسوده التمييز لا الديموقراطية، والتناحر لا الوئام، ولكنهم غير مكترثين على ما يبدو ما دامت تعود بفائدة مالية ومعنوية على بعض الأفراد، وتحقق مصالح آخرين. إن كل الأحاديث التي تدين المحاصصة تـفتـقر إلى الصدقية، ولم يعد هذا الأمر خافياً إذ إن مـعـظم العـراقيين فقدوا الثقة بالطبقة السياسة الحالية التي تمارس الخداع علناً بهدف الـبقاء في الـسلطة. المشكلة الأكبر أن الأحزاب الدينية تلجأ إلى الاحتماء بالـديـن ومـراجـعـه حينما تتعرض لضغوط شـعبـية جدية كما حصل في شباط (فبراير) الماضي عندما صمم الملايين على الاحتجاج على الفساد وسوء الخدمات وتدهور الأمن لكنهم اصطدموا بدعوات من رجال دين بالتريث. ومن هنا يتحمل مراجع الدين ورجاله مسؤولية كبرى لأن ثقة الناس بهم بدأت تتزعزع، خصوصاً مع ادعاء السياسيين الارتباط بهم واتباع إرشاداتهم. إن استمر الغطاء الديني الحالي للأحزاب الحاكمة فإن المؤسسة الدينية تخاطر بدفع حتى أتباعها إلى التمرد. عليها أن تبين موقفها بوضوح وتعلن صراحة أن المؤسـسـة الـديـنيـة لا عـلاقة لـهـا بالسلطة الـسـياسية وتـمنـع اسـتخدام أي إشـارة لها في القضايا السياسية. المحاصصة الطائفية أضرت كثيراً بالدولة والمجتمع وجاءت بغير الأكفاء إلى مواقع القيادة وسمحت بالفساد والاستبداد وبررته طائفياً وحمته سياسياً وآن الأوان أن تنتهي كلياً كي يلتفت العراقيون الى بناء بلدهم على أسس حديثة.

حميد الكفائي

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/269184