(الصورة) هيفاء الأمين أثناء حضورها مهرجان مسرح الطفل في الناصرية في شهر حزيران 2014… حضرت بينما غاب السياسيون الآخرون

الحياة، ٣١ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٤

لا بد من أن الذين هددوا السياسية العراقية اليسارية هيفاء الامين بالقتل إن لم ترتدِ الحجاب شعروا بأنهم في مأمن من العقاب، وأن أقل شيء يمكن أن يحصل لهم هو التجاهل وهذا لن يضرهم بشيء. ولكن من هم هؤلاء يا ترى؟ وكيف يجرأون على ارتكاب مثل هذه الجريمة جهاراً ونهاراً؟ وما الذي سيستفيدونه إن ارتدت هيفاء الأمين، بسنينها الستين، الحجاب؟

المسألة تتعدى المطلب الظاهري إذاً، وهؤلاء بالتأكيد ليسوا مجرمين عاديين أو مجرد متطرفين أثارهم سفور هيفاء الأمين غير الجديد عليها وعلى مدينة الناصرية المعروفة بانفتاحها الثقافي وطابعها الأدبي والفني منذ أمد بعيد. هذه المدينة التي ينتمي إليها مئات المبدعين من فنانين ومطربين وممثلين وشعراء ومثقفين وكتاب من كلا الجنسين وتتميز فيها المرأة بقوة الشخصية والاستقلالية والقدرة على العمل والاختلاط بالرجال من دون حرج.

لم أتعرف إلى هيفاء الأمين شخصياً إلا قبل ستة أشهر، لكنني سمعت الكثير عن نشاطاتها النافعة من أهالي الناصرية أنفسهم… وعندما التقيت بها في حزيران (يونيو) الماضي على هامش مهرجان مسرح الطفل لمحافظات الجنوب في العراق، شعرت أنني ألتقي شخصية مهمة وحرصت على أن ألتقط معها صوراً تذكارية، وكيف لا وهي المرأة الوحيدة في العراق التي فازت بجدارة بأصوات 8536 إنساناً حراً في الناصرية من دون أن تكون لها كتلة قوية تدعمها ولا مال تستند إليه ولا عشيرة تصوّت لها، بل اعتمدت على قدراتها الذاتية وفكرها وحبها للناس وسجلها المشرّف في العمل من أجل الديموقراطية ومصالح الناس. فازت قائمتها بأكثر من ثلاثة عشر ألف صوت في الناصرية، لكنها لم تحظَ بمقعد واحد في البرلمان بينما دخله آخرون ممن حصلوا على بضع مئات من الأصوات، والسبب هو غياب العدالة في النظام الانتخابي الذي اختاره المتنفذون على حساب الإنصاف والديموقراطية. كما دخل آخرون البرلمان بعد أن «أهدى» إليهم قادتهم مقاعدهم ليتوّلوا هم مناصب تنفيذية.

هيفاء الأمين تمثل الأريحية والوطنية المجردة من الأنا والغائبة حالياً عند كثيرين، وهي تمثل الحماسة من أجل خدمة الآخرين دون مقابل. كانت تعمل مع الشرطة من أجل تطبيق القانون وإنصاف من يتعرضون للاعتقال خطأً، وتعمل مع المعلمين والمدرسين والتربويين من أجل تحسين التعليم ودفع التلاميذ إلى المدارس بدلاً من التسيّب، ومع المجالس البلدية من أجل تحسين الخدمات، ومع المثقفين من أجل نشر ثقافة التعايش والسلام، ومع الفنانين والأدباء من أجل ترقية الفن والأدب. في مهرجان مسرح الطفل في الناصرية، غاب السياسيون، لكن هيفاء كانت حاضرة ولم يكن حينها موسم انتخابات كي تأتي للترويج لنفسها، بل جاءت تشجيعاً للطفل والمسرح واحتفاءً بنشاط يقام في مدينتها التي اختارت أن تعيش فيها على رغم توافر بدائل أفضل.

لم تحصل هيفاء الأمين على 8536 صوتاً من أصوات أهالي الناصرية لأنها كانت تهتم بنفسها أو بعائلتها أو بأقاربها، ولم تحصل عليها لأنها كانت تسعى الى عقد صفقات تجارية كي تزيد من ثروتها الشخصية التي لا تتعدى راتبها كمدرّسة ثانوية، ولم تحصل عليها معتمدة فقط على تاريخها المشرق والمشرف في مقارعة الديكتاتورية، على رغم أن هذا وحده يكفيها دليلاً إلى إيمانها الراسخ بمستقبل أفضل للعراق، ولم تحصل عليها لأنها تحدثت بالطائفية أو عبّرت عن رغبة بأن ترى «سبعة قتلى من السنّة مقابل كل سبعة من الشيعة» أو العكس. وفي هذا الصدد، لا أحد يعرف هوية هيفاء الأمين الطائفية ولا أعتقد أن أحداً يهمه أن يعرفها، لأن هذه المرأة الفاضلة أكبر من الهويات الفرعية. لقد حصلت هيفاء الأمين على آلاف الأصوات، لأنها عملت بصدق وإخلاص ومثابرة من أجل خدمة أهالي الناصرية ولأنها اهتمت بما اهتموا به ولأنها أرادت بصدق أن ترفع من مستوى الحياة في محافظتها وتُحدِث تغييراً حقيقياً لمصلحة الناصرية والعراق ككل، وقد أدرك الناصريون هذه الحقيقة فصوّتوا لها.

التهديد الذي تعرضت له هيفاء الأمين ليس موجهاً ضدها وحدها، بل يستهدف قيم الإنسانية والديموقراطية والحرية، ويهدد بنسف الدستور الذي كفل حرية الإنسان العراقي وساوى بين النساء والرجال. وهو يمثل سابقة خطيرة في مرحلة يقارع فيها العراق بكل قومياته وأديانه وطوائفه، ومعه المجتمع الدولي، التطرف المسلح في الموصل والأنبار وصلاح الدين وبابل وديالى وبغداد. لذلك، فإن هذا التهديد خطير ويجب ألا يمر دون رد حاسم من الحكومة والطبقة السياسية جمعاء.

ليس التهديد رأياً دينياً، فلا يحق لأحد أن يصدر فتاوى غير مراجع الدين المعروفين. إنه موقف سياسي ولجوء إلى العنف لتحقيق مكاسب سياسية بعدما كسبت هيفاء الأمين المعركة سياسياً وحققت شعبية كبيرة من المرجح أن تكتسح الشارع في الانتخابات المقبلة. إنه تهديد للقانون والنظام السياسي الذي أوصل سياسيينا الحاليين إلى البرلمان والحكومة. رئيس الوزراء مطالب بتطبيق القانون بحق المهدِّدين لأن الأمر يتعلق بهيبة الدولة وسلامة النظام السياسي كله، والسياسيون الآخرون مطالبون بالوقوف مع القانون والنظام والدستور الآن، فالسكوت هو بمثابة الموافقة على الجريمة.

رئيس الجمهورية الذي هو «رمز وحدة الوطن والساهر على ضمان الالتزام بالدستور» وفق نص المادة ٦٧ من الدستور، مطالب بالتشديد على حق العراقيات بارتداء الزي الذي يرتضينه لأنفسهن. فلا يحق لأحد أن يفرض عليهن رؤاه الدينية أو الأخلاقية، مع يقيننا يأن التهديد لا علاقة له بالدين. نائب رئيس الجمهورية أياد علاوي مطالب بإعلان موقفه من هذه القضية وهو بالتأكيد يقف مع حرية الفرد وحرية المرأة. نواب الشعب، خصوصاً النساء منهم، مطالبون بالتضامن مع إمرأة كان يجب أن تحتل بجدارة مقعداً بارزاً في البرلمان، لأنها حصلت على أصوات لم يحصل عليها نصف أعضائه الحاليين.

التهديد بالقتل جريمة كبرى، بل قد يفوق جريمة القتل نفسها لأنه يشيع الخوف والإرهاب والقلق بين الناس ويجعلهم يتخلّون عن حقوقهم الأساسية. في دولة القانون… يجب أن يشعر المواطنون بالأمن ويكونوا قادرين على الاستعانة بالقانون لحماية أنفسهم وحقوقهم، فإن لم يحصل هذا فلا مستقبل للديموقراطية أو دولة القانون في العراق.