الحياة: ١٧ نوفمبر-تشرين الثاني ٢٠١٤

أدهش «تنظيم الدولة» العالم في حزيران (يونيو) الماضي عندما استولى على مساحات من العراق وسورية وأعلن قيام «دولة الخلافة» فيها، ملغيا حدود دولتين عضوين في الأمم المتحدة، على رغم أنف العالم وعلى مرأى ومسمع من جيوشه الجرارة المزودة بأحدث أساليب الفتك وأجهزة مخابراته المتمرسة في كشف الخطط والتحركات وتبادل المعلومات السرية 

لم يتحقق هذا النصر «المؤزر» لهذا التنظيم الإرهابي الخطير بسبب ضعف جيشي العراق وسورية، وليس بسبب «شعبية» التنظيم بين الناس في البلدين كما يحلو للبعض أن يتخيل أو يوهم الآخرين، ولا بسبب «مساندة العشائر» له كما أخبرنا البعض عند وقوع هذه الكارثة المدوية. والمجزرة التي ارتكبها التنظيم بحق أفراد عشيرة البونمر في الرمادي خير شاهد على «التأييد» الذي يحظى به بين العشائر.

ليس إنكاراً لقوة التنظيم وقدرته على التوسع، ولكنه ما كان ليحقق الإنجازات التي حققها لولا الرعب الذي بثته وسائل الإعلام العربية في نفوس متلقيها عبر استعراض تفاصيل جرائم هذا التنظيم البشعة وزراعة الخوف واليأس في نفوس الناس وعقولها.

فقد سلّم الآلاف من منتسبي الجيش العراقي في الموصل أنفسهم وهرب كثيرون منهم تاركين أسلحتهم وراءهم لمجرد دخول بضع مئات من أفراد التنظيم إلى مدينة الموصل (قُدِّر عددهم بـ ٨٠٠ عنصر). جنود فروا، حسب روايات بعضهم، بمجرد سماعهم شائعة بقدوم عناصر التنظيم إلى المنطقة وظنوا أن هربهم سينفعهم ولكن الهرب من المواجهة لن يحول عدواً غاشماً إلى رحيم بخصومه، بل سيزيده تمادياً وإرهاباً. التنظيم الذي لم يرحم متطوعي إغاثة أو صحافيين أو نساء أو أطفالاً بل ذبحهم كالنعاج لمجرد أنهم بريطانيون أو أميركيون أو شيعة أو أيزيديون أو مسيحيون أو سنّة رافضون له، لا يمتلك القدرة على الرحمة بأحد لأن وجوده قائم على القتل والتدمير. 

كثيرون من سكان بغداد حبسوا أنفاسهم في الصيف الماضي متوقعين سقوط العاصمة، ذات السبعة ملايين إنسان، بين أيدي «داعش»، على رغم أن التأمل لدقائق في هذا الأمر يجعل من الصعب أن يتقبل المرء حدوثه. فبغداد تضم مئات الآلاف من عناصر الشرطة والجيش والمواطنين المسلحين الأشداء، وإن تصدى بعض هؤلاء للتنظيم بجد لاختفى كلياً من المشهد.

كل هذا التهويل والاعتقاد بقدرة «تنظيم الدولة» اللامتناهية تتحمله وسائل إعلام عربية وعراقية انشغلت بتخويف الناس وإرعابهم من «داعش» وقدراته الخارقة على قطع الرؤوس. وقد ترك هذا التهويل أثره على الناس المسالمين وجعلهم يستسلمون لقدرهم «المحتوم» على رغم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وإلحاق الهزيمة بالآخر.

إحدى وسائل الإعلام تبث إعلاناً متكرراً يصور التنظيم الإرهابي على شكل أفعى سوداء عملاقة تجوب الشوارع والأزقة إلى درجة أن أي مشاهد يتابع هذه القناة يصاب بالهلع من هذا المنظر المقرف. وسائل إعلام أخرى تشرح جرائم «داعش» بتفاصيلها المرعبة وكيفية قتله للأشخاص واعتدائه على النساء والأطفال ما جعل كثيرين يستسلمون وهم في منازلهم جالسين أمام شاشات التلفزيون. 

لقد سادت أجواء الإنهزام واليأس في الشارع العراقي منذ استيلاء التنظيم على الموصل، ولولا المعالجات اللاحقة ومنها فتوى المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني بالجهاد ضد هذه الجماعة، والتغيير السياسي في قمة السلطة في العراق في آب (أغسطس) الماضي، وانعقاد مؤتمر التحالف الدولي ضد الإرهاب في جدة وما تلاه من تفاهم إقليمي واستعداد غربي لدخول المعركة، وإن كان من الجو، لاتسعت أجواء اليأس والانهزام تلك وربما قادت إلى تفكك الدولة العراقية بكل ما تمتلكه من إمكانات القوة والبقاء. 

الموصل ما كانت لتسقط لولا هذه الانهزامية التي أبداها القادة السياسيون والعسكريون وتساهلهم مع تغلغل الجماعات الإرهابية في مفاصل الحياة في المحافظة وجبايتها للأتاوات من الشركات ورجال الأعمال بل حتى المؤسسات والدوائر الحكومية علناً منذ عدة سنوات. أجهزة الأمن والجيش في الموصل كانت تمتلك أسلحة وإمكانات عسكرية وبشرية كبيرة وكان بإمكانها إلحاق الهزيمة بالتنظيم أو إضعافه لو توفرت الإرادة على المواجهة والاستعداد للتضحية.

التنظيمات الإرهابية تزدهر وتكبر عندما تحظى بالتغطية الإعلامية الواسعة وعندما تُنشر بشاعاتُها على شاشات التلفزيون لأن هذه المناظر والمظاهر هي سر قوة هذه التنظيمات التي تؤمن بقمع الآخر واجتثاثه. تنظيم القاعدة ازدهر وكبر وطغى بسبب التغطية الإعلامية الواسعة النطاق التي حظي بها في قناة عربية معروفة نذرت نفسها للترويج للتنظيمات الإرهابية.

بعض الإعلاميين غير المسؤولين كانوا يروجون لابن لادن وقد كتبوا في «فضائله» الكتب والمقالات وتغنوا به في مقابلاتهم التلفزيونية حتى قال أحدهم إنه مدين لابن لادن بشهرته الواسعة والمبيعات التي حققها كتابه عنه! وعندما انتهت مرحلة ابن لادن، غيَّر صاحبُنا ولاءه إلى نقيضه.

بعض السياسيين والمعلقين والكتاب العراقيين ولأسباب شخصية أو ربما «شِلَلَية» إذا أحسنا الظن، لا يتورعون عن الترويج للضعف العراقي واحتمالات «سقوط» بغداد أو العراق ككل في أيدي «داعش» ويختلقون أحداثا عن قصد بهدف تعزيز حالة الضعف العام واليأس. البعض الآخر ما زال يروج للجماعات الإرهابية من أجل لفت الانتباه إلى نفسه أو محاولة بيع موقفه لمن يشتري.

أحد النواب الفاشلين بُحَّ صوته في مخاطبة مفتي الإرهاب، الذي أعلن أن بالإمكان «التفاهم مع داعش للحصول على الحقوق»، وحثه على دعم الفرقة والانقسام في المجتمع العراقي وبالتالي النفخ في بالون الجماعات الإرهابية. ولسوء حظه لم تنجح محاولاته فتوارى عن الأنظار مضطراً وليس خجلاً.

هناك ضرورة لأن يكون هناك إحساس عند السياسيين والإعلاميين وقادة الرأي بالخطر الداهم الذي يشكله الإرهاب على الجميع. حرية الرأي لا تمتد للترويج للجماعات الإرهابية أو تضخيم المواقف المتطرفة. إن لم يكن هناك مشتركات يتمسك بها الجميع فإننا جميعاً نسير إلى حتفنا بأرجلنا. الأمن الوطني لأي دولة خط أحمر لا يعبره أحد، لكن كثيرين بيننا لا يفكرون إلا بمصالحهم الضيقة التي يرونها بمعزل عن المصلحة العامة.

 

http://alhayat.com/Opinion/Writers/5738247/انتصارات-«تنظيم-الدولة»—-صناعة-إعلامية