الصورة من اليسار: الصحفي البريطاني الرائد الراحل ريتشارد ديمبلي ونجلاه، دفيد وجوناثان، الصحفيان اللامعان اللذان يُحيان ذكر والدهما كل عام في محاضرة قيمة تساهم في إثراء المعرفة بالجديد

 

 

 

مجلة الهدى: تشرين الثاني ٢٠١٤

لكل شعب طريقته في الاحتفال بالمناسبات والذكريات التي يشعر بأهميتها، لذلك تعددت طرق الاحتفال بالمناسبات وتشعبت واتخذت عدة أشكال لكن الهدف الأساسي منها يبقى استثمار المناسبة بالمفيد للمجتمع والبلد أو الشريحة المجتمعية التي ينتمي إليها المحتفى بذكراه مثل شريحة الأطباء أو المهندسين أو المحامين أو الطلاب. 

والمناسبة تشكل في كل الأحوال فرصة للمجتمع ككل للمراجعة أولا ثم الاستفادة ثانيا وهذا هو الأهم. فليس من المعقول أن تستغل مناسبة أو ذكرى متميزة لممارسة أفعال ضارة بالمجتمع وتعطل أعماله ونشاطاته الاقتصادية لفترات طويلة لأن ذلك يسيء إلى صاحب الذكرى وإلى المجتمع الذي يسمح لنفسه أن يفوت فرصة ثمينة ولا يستغلها بالمفيد.

لقد دأبت الكثير من المجتمعات المتطورة على استخدام الاحتفال بالمناسبات للإتيان بشيء جديد ومفيد للمجتمع كأن يعقد فيها مؤتمر علمي أو فكري تعرض فيه افكار جديدة أو ابداعات أو أن تنظم فيها معارض فنية ومشاهد مسرحية أو مهرجانات متنوعة تخلط بين الفن والترفيه والتجارة كأن تعرض فيها منتوجات ثقافية للبيع والمنتوجات الثقافية قد تتضمن أي شيء له علاقة بثقافة معينة حتى الأطعمة والألبسة كما يحصل في كرنفال نوتينغ هيل في لندن الذي يقام كل عام في نهاية شهر آب في منطقة (نوتينغ هيل) غربي العاصمة البريطانية. 

وفي أحيان أخرى تنظم محاضرة واحدة كل عام للاحتفال بتلك المناسبة يكلف بإلقائها شخصية علمية أو أدبية أو فكرية متميزة وتسمى تلك المحاضرة باسم صاحب الذكرى… في بريطانيا مثلا يُحتفل سنويا بذكرى الصحفي الرائد ريتشارد ديمبلبي بمحاضرة تسمى (محاضرة ديمبلبي) يلقيها مفكر معروف ويتحدث فيها عن أفكاره هو وليس بالضرورة صاحب الذكرى الذي تخلده المناسبة وعنوانها. ويحضر في هذه المحاضرة نجلاه ديفيد وجوناثان اللذان يقدم أحدهما المحاضر الضيف، وهما أيضا من ألمع الصحفيين ومقدمي البرامج المهمة في بريطانيا وأكثرهم شهرة. فما زال ديفيد يقدم أهم البرامج في بي بي سي بينما يعمل جوناثان في القنوات التلفزيونية المستقلة. قد توزع في المحاضرة كتب أو مجلات تتحدث عن الشخص وانجازاته أو الأمور التي اهتم بها في حياته أو أي شيء آخر، فهي في نهاية المطاف مناسبة يمكن أن تستتثمر في أي اتجاه ومن أي طرف…

كما دأب آخرون على تأسيس جمعيات خيرية باسم الشخص المحتفى بذكراه كي تقوم بتنفيذ نشاطات خيرية في المجالات التي اهتم بها في حياته، وتُموَّل هذه الجمعيات نفسها عن طريق التبرعات التي يتبرع بها المهتمون أو المتأثرون بذلك الشخص ومحبوه والمعجبون به أو من الأموال التي تجمع في بعض نشاطاتها.

هناك أيضا طريقة أخرى لإحياء المناسبات والذكريات وهي تأسيس جوائز للمبدعين في المجال الذي تخصص به الشخص المحتفل بذكراه فهناك جائزة نوبل الشهيرة التي تمنح للمبدعين من ذوي الإنجاز الأهم في كل مجالات المعرفة بالإضافة إلى السلام العالمي التي تمنح لمن ساهموا في تعزيز السلام في أي مكان في العالم، وجائزة مان بوكر البريطانية التي تمنح لأفضل رواية صادرة في اللغة الإنجليزية في بريطانيا (كانت سابقا تعرف بجائزة بوكر-ماكدونل وهي الشركة الخاصة التي أسست الجائزة عام ١٩٦٨ التي يمتلكها السيدان بوكر ومكدونال لكنها تغيرت إلى مانبوكر بعد أن تسملت إدارتها شركة مان فأبقت على الإسم السابق وأضافت إليه اسمها).

وقد حاكى أثرياء عرب هذه الطريقة الجيدة في إبقاء الأسماء حية في المجتمع عبر تقديم الجوائز الأدبية فأسسوا جوائز منها جائزتا العويس في الأمارات والبابطين في الكويت وغيرهما.

نحن في العراق بحاجة لأن نحتفل بمناسباتنا بطريقة حضارية تليق بعظمائنا وتخدم الأهداف التي سعوا إليها وآمنوا بها وفي الوقت نفسه تكون نافعة للمجتمع وغير مضرة بالآخرين. المبالغة في الاحتفالات ليست في مصلحتنا وهي بالتأكيد لا تخدم المناسبة مطلقا. 

تقديم الأطعمة بكميات هائلة وتبذيرها في وقت يعاني فيه كثيرون من الفقر المدقع، أو قطع الطرق التي يستفيد منها الناس جميعا بحجة الاحتفال، أو ترك العمل النافع وتعطيل مؤسسات الدولة بحجة الاستعداد والمشاركة في هذه المناسبة أو تلك هي أعمال غير نافعة ولا تخدم المناسبة ولا أهدافها بل قد يكون لها مردود عكسي. هناك حاجة لأن يتدخل قادة الرأي ورجال الدين لإقناع البعض بإيقاف الممارسات التي تؤذي باقي الناس والتي تقام تحت أسماء مقدسة…  

خير الناس من نفع الناس والمسلم من سلم الناس من يده ولسانه ونحن لسنا أقل حضارة أو إنسانية أو كرما من باقي الشعوب بل لدينا ما نتفوق به على الآخرين لو أحسنا التصرف وانتبهنا إلى أن ما يقوم به بعضنا باسم العظماء والمقدسات يستعدي علينا الناس ويضر بنا جميعا وقد تمتد أضراره لأجيال قادمة إن لم ننتبه إليه الآن. نحن لا نعيش وحدنا في هذا العالم بل مع الآخرين الذين قد يختلفون معنا في بعض الجزئيات لذلك يجب أن نراعي مصالحهم ومشاعرهم وحرياتهم كي نكسب ودهم ونعيش جميعا بحرية وكرامة.