مجلة الهدى تشرين الأول ٢٠١٤

تعرفت على الراحل هاني فحص قبل عقد ونصف من الزمن تقريبا وقد سعيت إلى ذلك بنفسي دون سابق معرفة إذ حصلت على رقم هاتفه من أصدقاء واتصلت به وذهبت إلى بيته  القريب من حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية في تلك الفترة. ورغم أنه كان لقاء تعارفيا لكن السيد هاني يدخل في العمق من البداية ولا يتردد في مناقشة أي شيء ويعتبر الآخرين أصدقاءه.  وقد ناقشنا فعلا العديد من المسائل المتعلقة بالدين والثقافة ودور الدين في الحياة السياسية. حدثني عن تأريخه السياسي وعن دراسته في النجف الأشرف في الستينيات والسبعنيات وكيف رافق المرحوم ياسر عرفات إلى إيران لمقابلة الإمام الخميني ولماذا غادر إيران عائدا إلى لبنان بعد إقامة  لم تدم طويلا 

أعجبت بثقافة السيد هاني الموسوعية واطلاعه على الثقافة والأدب العالميين ومعرفته التفصيلية بالأديان والمذاهب وهذا الإعجاب دفعني إلى زيارته في كل مرة تسنح لي الفرصة بذلك. يؤمن السيد هاني بضرورة الحوار بين الأديان والمذاهب والأحزاب والجماعات المختلفة باعتبار أن الحوار قانون كوني فلا يحق لأحد أن يجبر الآخرين على أي شيء خصوصا في ما يتعلق بالدين والفكر  والسياسة. كما يؤمن السيد هاني بضرورة إقامة الدولة المدنية العصرية التي لا تتدخل في شؤون الدين لأنها ستفسده حينئذ، وفي الوقت نفسه يرى السيد أن على المؤسسة الدينية ألا تتدخل في دقائق الشؤون السياسية لأن ذلك ليس في مصلحة الدولة أو الدين.  

ويرى السيد هاني أن علينا أولا أن نتفق على أن نعيش معا بسلام وثانيا أن نعرف أن الخلاص فردي وليس جماعيا وثالثا أن الفضاء الديني يتسع لنا جميعا… وعند التوصل إلى هذا الاتفاق علينا أن نذهب إلى النص الديني فإن وافَقَنا “فخير وبركة” وإن لم يوافق فإن علينا أن نأوله كي يتناسب مع الحياة. الإنسان، حياته وحريته وكرامته، هو المقدس الأول عند السيد هاني وهذا في رأيه يتفق مع الإسلام، فقد ورد في القرآن الكريم (ولقد كرمنا بني آدم).. النصوص الدينية في رأي السيد هاني جاءت لخدمة الإنسان وليس من الدين بشيء أن تستخدم هذه النصوص لتقييد الإنسان أو الإضرار به.

عاش السيد هاني من أجل الآخرين ولم اسمعه يتحدث عن نفسه إلا عندما يُسأل عن ذلك. كان يعيش القضية الفلسطينية كفلسطيني وقد انتمى إلى حركة فتح وساهم مساهمة فاعلة في النضال الفلسطيني حتى أن الفلسطينيين منحوه الجنسية الفلسطينية تقديرا لجهوده ونضاله. كما كان يعيش القضايا العراقية كعراقي ويعرف تفاصيلها الدقيقة ويتواصل مع العراقيين باستمرار وكان دائما يصرح بأنه عراقي. والحقيقة أن الرجل عراقي بكل ما للكملة من معنى. فهو يتحدث مع ضيوفه العراقيين بلهجة عراقية سليمة، وهو يعرف عن العراق ما لا يعرفه عراقيون كثيرون وكان بعد زوال الدكتاتورية يزور العراق سنويا على الأقل مرة واحدة وفي بعض السنين يبقى لفترات طويلة في بغداد والنجف كما اعتاد على حضور معرض الكتاب السنوي لمؤسسة المدى وقد حضره قبل خمسة أشهر ولم يبدُ عليه أي مرض بل كان نشيطا ومرحا كعادته. 

لا غرابة في انتماء السيد هاني فحص إلى العراق فالرجل عاش في النجف سني شبابه ودرس العلوم الدينية في حوزة النجف. لم يقيد السيد هاني نفسه بقضية واحدة بل ظل يمثل المثقف والأديب والمفكر ورجل الدين العالمي الذي يتفهم الأديان والمذاهب والأفكار الأخرى ويتقبلها كما هي دون شرط أو قيد ويطلع على الثقافات والآداب العالمية بهدف التعلم منها وكان مؤمنا إيمانا عميقا بالحوار واحترام الآخر.

رحل السيد هاني فحص عنا عن عمر ناهز الثامنة والستين وهو بالتأكيد رحيل مبكر أدمى قلوب محبيه وأصدقائه وهم كثيرون ومنتشرون في كل بلدان العالم. لربما تعب جسدُه الرشيق من حمل كل هذه العلوم والهموم التي كبّله بها السيد فانتقل إلى جوار ربه حيث الراحة الأبدية والسلام الدائم. رحل هاني فحص جسدا لكن ذكره الطيب وآثاره وأفكاره ستبقى في قلوب وعقول الملايين من الناس الذين أحبوه وتأثروا بأفكاره وشخصيته المحببة.