باختيار الدكتور حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، برهنت قائمة “التحالف الوطني” أنها كتلة متماسكة وقادرة على اتخاذ القرار الصعب الذي كان العراقيون وغيرهم ينتظرونه. لقد أدرك “التحالف” حجم المعارضة، وطنيا ودوليا، لبقاء السيد نوري المالكي لولاية ثالثة فعالجه بترشيح شخصية مقبولة عراقيا ودوليا.

وتتلخص أهمية اختيار العبادي في عدة عوامل أهمها أنه ينهي حالة الانسداد السياسي الذي وصلت إليه العملية السياسية نتيجة المعارضة المتنامية لسياسات رئيس الوزراء المنصرف نوري المالكي، التي أزعجت شرائح سياسية ومجتمعية واسعة، وفشل حكومته في مجالي الأمن والاعمار.

ويحظى العبادي بمقبولية وطنية ودولية واسعة، وهو سياسي متمرس وحزبي ملتزم بخطه السياسي فلم يغادر حزب الدعوة أو يخالف توجهاته منذ انتمائه له عام 1967. ويتمتع العبادي بدرجة عالية من الثقافة والتعليم إذ تخرج من جامعة بغداد في حقل الهندسة الإلكترونية عام 1975 ثم حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة مانشستر البريطانية المرموقة عام 1981 ومارس العمل المهني في اختصاصه كأستاذ جامعي في العراق، ثم مهندس ومدير شركة للخدمات الألِكترونية لأكثر من عشرين عاما في بريطانيا، وهذا يعطيه الخبرة المهنية المطلوبة التي يفتقر إليها كثيرون من منافسيه.  

ويتميز العبادي بالاعتدال في أفكاره وطروحاته السياسية وفهمه العميق للسياسة الدولية وضرورات الدولة الديمقراطية، كما يتميز بدماثة الخلق والتواضع والالتزام الصارم بالقوانين والمبادئ والقيم الدينية. وينحدر العبادي من عائلة بغدادية مرموقة إذ كان والده، الدكتور جواد العبادي، طبيبا معروفا ومديرا لمستشفى الجملة العصبية في بغداد وتنتمي عائلته إلى قبيلة “عبادة” المنتشرة في العراق ويتوزع أفرادها بين الطائفتين السنية والشيعية، ما يجعله متوازنا طائفيا، وهذه ميزة مهمة في هذا الظرف الذي تزايدت فيه حدة الشعور الطائفي في المنطقة.

ردة فعل المالكي الغاضبة على تكليف رفيقه وزميله العبادي بتشكيل الحكومة، وتقديمه شكوى إلى المحكمة الاتحادية بأن التكليف غير دستوري، قد فاجأ المراقبين وأثار استغرابهم. ويتركز الخلاف الذي ظهر قبل تنحي المالكي حول أي الكتلتين يجب اعتبارها الأكثر عددا؟ هل هي “دولة القانون” ذات الـ 95 مقعدا أم “التحالف الوطني” ذات الـ 184 مقعدا والتي تضم بين صفوفها دولة “القانون”؟ قرار المحكمة الاتحادية لعام 2010 ينص على أن الكتلة الأكبر هي التي تعلن عن نفسها في الجلسة الأولى للبرلمان وقد تأسست حينها كتلة “التحالف الوطني” التي اختارت المالكي مرشحا لها. وبقي الحال نفسه في جلسة البرلمان الأولى في الأول من تموز/يوليو 2014، إذ أعلن “التحالف الوطني” أنه الكتلة الأكبر وقدم مرشحه لشغل منصب نائب رئيس البرلمان، وهو الدكتور العبادي نفسه، بحضور السيدين المالكي والجعفري، ولم تُطرح دولة القانون ككتلة مستقلة. لكن الأمر اختلف لاحقا بعد ان اتضح أن “التحالف الوطني” لن يؤيد استمرار المالكي في السلطة، عندها بدأت المطالبة بأن تكون “دولة القانون” هي الكتلة الأكبر. 

ولحسن حظ العراق هذه المرة، فإن الرؤساء الثلاثة الجدد، فؤاد معصوم وحيدر العبادي وسليم الجبوري، زاهدون بالمناصب وسجلهم يبين أنهم لم يسعوا إلى مناصبهم الحالية بل رُشِّحوا لها بسبب المقبولية الوطنية التي يتمتعون بها. السيد معصوم دُفع إلى الرئاسة دفعا من قبل حزبه وأبناء قومه، والشيء نفسه حصل مع السيد العبادي الذي رشحته قيادة حزبه وأكثر من نصف أعضاء كتلة دولة القانون وجميع أعضاء كتل المواطن والأحرار والفضيلة والإصلاح (127 نائبا) وأيدته معظم القوى السياسية والإقليمية والدولية. والسيد الجبوري هو الآخر لم يسعَ إلى رئاسة البرلمان بل رشحته كتلة القوى العراقية، وقد عرض التخلي عن الرئاسة إن كان ذلك سيحل أي مشكلة.

وفي خضم كل هذ التنافس، شكل انتخاب العبادي لرئاسة الوزراء بداية مشجعة للعراق الذي يعاني من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية هي الأخطر في تأريخه. وعلى رغم الترحيب العراقي والإقليمي والدولي بتكليف العبادي والتفاؤل بمقدمه، فإنه يواجه مهمة في غاية الصعوبة. فمسلحو جماعة “داعش” الإرهابية يسيطرون على الموصل وأجزاء أخرى في محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى، وهذا هو أخطر تهديد تواجهه حكومته. لكن الأمل معقود على المقبولية الوطنية والدولية الواسعة التي حظي بها العبادي حتى الآن، وخبرته الطويلة في العمل السياسي وتعاون الكتل السياسية والمجتمع الدولي معه لإخراج العراق من أزمته الحالية.

ويعتبر تعاون المالكي مع حكومة العبادي ضروريا لأنه يعرف الكثير من التفاصيل التي سيحتاجها العبادي لإيجاد الحلول الناجعة لمشاكل العراق. وعلى رغم ردة فعل المالكي الأولية الغاضبة من فكرة إزاحته عن السلطة، لكنه سيضطر إلى التعاون مع العبادي لأنه جزء من منظومة سياسية ودينية لا يمكنه الانفكاك منها، فالمرجع الأعلى السيد علي السيستاني أوصى بانتخاب رئيس جديد للوزراء، ونصح بـ”عدم التشبث” بالمناصب وكان واضحا أنه يقصد المالكي دون غيره فليس هناك متشبث بالمنصب غيره. 

لقد أمضى المالكي ثماني سنوات في السلطة تخللتها إخفاقات كثيرة خصوصا في السنوات التي تلت الانسحاب الأمريكي عام 2011، وقد وفرت له الانتخابات الأخيرة فرصة ثمينة كي ينسحب منتصرا لأن كتلته فازت بأكثر المقاعد، وهو شخصيا حصل على أعلى الأصوات في العراق، لكنه لم يستغل الفرصة بل أوقع نفسه في مأزق جديد أضر بسمعته وجعله يبدو متمسكا بالسلطة لأسباب شخصية حتى بعد اختيار زميله ورفيقه حيدر العبادي الذي يمتلك فرصا أكبر في النجاح وإخراج العراق من عنق الزجاجة.

 الإنجاز الاكبر لأي سياسي هو أن يعرف متى يغادر، وهذه مهارة يجيدها القادرون على قراءة “الكتابة على الجدران” وهؤلاء ليسوا كثيرين في عالم السياسة ومنهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ويلسون الذي أصر على التقاعد في عيد ميلاده الستين على رغم مطالبة حزب العمال له بالبقاء. الزعيم الأفريقي نسلن مانديلا اكتفى بولاية رئاسية واحدة وكان بإمكانه أن يستمر مدى الحياة بسبب مكانته الدولية. رئيس وزراء كندا، بيير ترودو، صارع حزبه لفترة طويلة من أجل مغادرة موقعه. الزعيم الفرنسي جاك ديلور أصر على التقاعد في وقت كانت الرئاسة الفرنسية بين يديه. الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسن، تنازل لخلفه فلاديمير بوتن حتى قبل انتهاء ولايته. وقد فعل الرئيس الجزائري لامين زروال الشيء نفسه. مارغريت ثاتشر وقعت في فخ التمسك بالسلطة حتى ثار عليها البريطانيون عام 1990، عندها تحدى قيادتها منافسون من حزبها فاضطرت إلى الانسحاب. أما توني بلير فقد انسحب عندما قرأ “الكتابة على الجدران”.

 لم يعتَد قادتنا على التنازل أو التخلي عن السلطة طوعا وهم دائما يجدون من يصور لهم أن لديهم شعبية واسعة وأن بقاءهم ضروري لبقاء البلد وتماسكه وهذه من أكبر المشاكل الثقافية التي تواجه بلداننا لذلك يجب تشريع قوانين تفرض حدودا زمنية للبقاء في المناصب العليا كي تنعم بلداننا بالتداول السلمي للسلطة الذي يأتي بالاستقرار والرخاء.  

الحياة 17 آب 2014