إيلاف 19 تموز 2006
كنت قد وعدت السيد نوري المالكي في رسالتي المفتوحة إليه عبر جريدة “الصباح” قبل شهرين تقريبا (2/5/2006) أن أكون صادقا معه وأن أتصدى لما أراه خطأ وأن لا أخشى في الحق لومة لائم، وهاأناذا اليوم أفي بوعدي لأقدم له أول تقييم لي عن نشاطاته. وأود أن أذكِّره قبل كل شيء بالحديث الشريف “صديقك من صدقك لا من صدّقك” كي نكون على بينة من أمرنا، فالمقصود بالنقد هو البناء والتصحيح أولا وأخيرا. أعتقد أن زيارة المالكي إلى دول الخليج جاءت في وقتها من أجل التأكيد لجيراننا الخليجيين أننا نحرص على أن تكون علاقتنا بهم على أحسن ما يرام ونعي دورنا في المنطقة الذي نريده أن يكون إيجابيا، ونرغب أن نساهم في استقرار منطقة الخليج وازدهارها، على العكس تماما مما كان صدام يفعله سابقا. ومقابل ذلك نريد منهم أن يضطلعوا بما يمليه عليهم واجبهم القومي، كعرب، والإسلامي، كمسلمين، والقانوني، كدول أعضاء في الأمم المتحدة ملتزمة بقوانينها من خلال مساعدة العراق في القضاء على الإرهاب من اجل تحقيق الأمن والاستقرار للجميع.

إن ابتداء المالكي عهده بزيارة دول الخليج له دلالة إضافية واضحة المعاني تؤكد الأهمية التي يوليها المالكي للعلاقة مع الدول العربية، بشكل عام، والخليجية بشكل خاص. ومن جهة أخرى، فإن الوضع الأمني الخطير في العراق واحتمال انتشاره إلى البلدان المجاورة لا يتحمل الانتظار، لذلك فإن هناك ضرورة قصوى للتباحث مع جيراننا العرب حول الموضوع والبدء بحملة إعلامية واسعة النطاق من أجل الأمن ومن أجل مستقبل الجميع، فهناك مصلحة مشتركة لنا ولهم في إيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لمشاكلنا. إن جزءا كبيرا مما يعاني منه العراق اليوم من اضطراب وعدم استقرار هو إما نتيجة مباشرة لسياسات دول عربية تجاه العراق، وإما نتيجة للفهم الخاطئ السائد في أوساط شرائح واسعة من الشعوب العربية لما جرى في العراق خلال عهد صدام وما يجري حاليا. لذا كان من الضروري أن نتفاهم مع أخواننا العرب منذ البداية ونطلعهم (من خلال الإعلام طبعا) على ما جرى لنا في أول فرصة سنحت لنا وما نفكر به حاليا من حلول لمشاكلنا.

الكثيرون من العرب لا يثقون بالولايات المتحدة رغم أن حكوماتهم تقيم علاقات وثيقة معها، وهذا وجه من أوجه التناقض العربي السائد اليوم. لكنهم يتفهمون الموقف العراقي عندما نشرحه لهم بوضوح ودون اللجوء إلى إقحام الماضي في المستقبل. كثيرون منا لا يزالون يعيشون في الماضي، بل مصرّين على تصحيحه قبل الانطلاق نحو المستقبل، وهذه من مصائبنا المعقدة التي نحتاج أن نضع لها حلا. كثيرون منا مثاليون يريدون أن يحققوا كل ما هو صحيح وعادل ومنصف الآن وعلى وجه السرعة ودون انتظار الوقت المناسب “لأننا انتظرنا طويلا” حسب قولهم، وسبب هذا التفكير هو في رأيي ضعف في التخطيط ونقص في الخبرة وتولي الأشخاص غير المناسبين لمسئوليات غير مناسبة لكفاءاتهم وقدراتهم.

كنت ولا أزال أعتقد أن المحاصصة الطائفية والحزبية في كل شيء خطأ جلل سيترك آثاره علينا إن عاجلا أو آجلا لأنه ببساطة يأتي بأشخاص غير أكفاء إلى مواقع هم غير أهل لها مما يتسبب في خلق خلل جديد يؤسس لتقليد خطير في البلاد. إن اعتماد معايير الولاء، سواء كان حزبيا أم طائفيا أم قوميا أم عشائريا أم عائليا أم مناطقيا، لا ينسجم مع النظام الديمقراطي المرتجى للعراق. فهذه المعايير أكثر اتساقا مع نظام الحكم الفردي، بما ينطوي عليه من شخصانية في اتخاذ القرار وتعسف في ممارسة السلطة، في حين أن المبادئ التي تصوغ عمل النظام الديمقراطي، من قبيل المساءلة والشفافية والمصداقية والنزاهة، لا يستقيم أمرها من دون اعتماد الكفاءة والجدارة والخبرة والمؤهلات كمعايير للتعيين والترقي والمكافأة في أجهزة الدولة ومؤسساتها. ما الذي يستطيع القيام به شخص حسن النية لكنه قليل الخبرة؟ سوف يخطئ ويخطئ ويخطئ ولن يتعلم لأنه ليس هناك من يستطيع أن يتعلم منه.

هل نحن مستعدون لتلقي المزيد من الأخطاء ومضاعفاتها من أجل أن نعطي فرصا لأشخاص غير أكفاء لمجرد أنهم أعضاء في هذا الحزب أو ذاك؟ وهل النتائج التي تمخض عنها “الاستحقاق الانتخابي” تفرض علينا المجيء بأتباعنا وأصدقائنا أم بأهل الكفاءة؟ أعتقد أن الأفضل أن نأتي بأهل الكفاءة والخبرة ونراقبهم ونحاسبهم إن أخطأوا لا أن نأتي بمن نثق بنواياهم لكنهم غير قادرين على أداء مهامهم بشكل صحيح وعندما يخطئون فإننا لا نستطيع أن نحاسبهم لأننا كنا نعلم عند تعيينهم أنهم قليلو الخبرة. من الممكن أن نعطي هؤلاء الفرصة في العمل ولكن من مواقع أدنى كي يتعلموا من أهل الخبرة بمرور الزمن. هذه قوانين الطبيعة السائدة في الدول المتقدمة أو الساعية إلى التقدم، ولكن يجري تجاهلها في العراق، كما في غيره من الدول التي تعاني من اختلال في منظومة القيم ومبادئ السلوك الإداري التي تهتدي بها أجهزتها ومؤسساتها.

في دول الخليج يأتون بأهل الخبرة من كل مكان ليعملوا جنبا إلى جنب مع المواطنين كي يدربوهم ويتعلموا منهم، وبهذه الطريقة الذكية بنى الخليجيون بلدانهم وتمكنوا من تحقيق التقدم وها هم الآن، وبعد فترة وجيزة في تاريخ الشعوب لم تتجاوز الخمسين عاما، لديهم أفضل الخبراء في كل منحى من مناحي الحياة، بل أصبحت بلدانهم واجهات سياحية وثقافية وتجارية للكثير من مواطني البلدان المتقدمة.

نحن في العراق نتجنب أهل الخبرة وهم منا لأننا نريد “أن نعطي أتباعنا وأصدقاءنا فرصا في العمل لأنهم “كانوا مظلومين ومهمشين في السابق”!!!! ورغم أن هذا هو هدف نبيل بحد ذاته إلا أن تحقيقه من خلال استبعاد الكفاءات والخبرات لن يقودنا إلى أهدافنا الأخرى الأكثر إلحاحا وهي تحقيق الأمن والاستقرار وتوفير الخدمات للشعب العراقي.

وأعود إلى صلب الموضوع. خلال زيارة السيد المالكي الأخيرة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، اتصل بي أصدقاء إعلاميون من عدة مؤسسات إعلامية عربية وأجنبية وطلبوا مني مساعدتهم في تغطية الزيارة من كل أبعادها وإجراء لقاءات مع الرئيس المالكي ومع بعض أعضاء الوفد المرافق له. وكنت في زيارة لدولة مجاورة وكانت الاتصالات تجري عبر الإنترنت. فقلت لهم إنهم سيستطيعون دون شك أن يجروا هذه اللقاءات وعليهم الاتصال بأعضاء السلك الدبلوماسي العراقي في الإمارات وقدمت لهم ما أعرف من أسماء وأرقام هواتف لأشخاص هناك. لكنهم عادوا وقالوا إن هؤلاء الأشخاص لا يعلمون شيئا عن برنامج الزيارة ولم يتمكنوا من مساعدتنا. فنصحتهم بالانتظار حتى يسمعوا شيئا من الوفد حول مؤتمر صحفي أو أي نشاط آخر.

وعندما عاودوا الاتصال بأحد المسئولين عن برنامج الزيارة قال لهم “إن عليهم أن يتصلوا بقناة العراقية”!!! ولا أدري كيف يُطلب من وسائل إعلام مستقلة أن تتصل بوسائل إعلام أخرى منافسة لها كي تغطي الأخبار؟؟؟؟؟ وكيف يمكن لقناة “العراقية” أن تساعد منافساتها من وسائل الإعلام الأخرى؟ يبدو أن مطلِق هذه “النصيحة” لا يعرف شيئا عن الإعلام لكنه مع ذلك كُلف بمتابعة هذا الملف في هذه الزيارة المهمة.

  سمعت لاحقا من صحفيين يعملون في الأمارات أن السيد المالكي اضطر إلى تأجيل مؤتمره الصحفي لنحو ساعة من الزمن بسبب عدم وجود إعلاميين يحضرونه!!! وقد طُلِب إلى بعض الصحفيين (وهنا المصيبة العظمى) أن يطلبوا من زملائهم وأصدقائهم أن يحضروا كي يزداد عدد الحاضرين في المؤتمر الصحفي!! وفي النهاية عُقد المؤتمر لكن وسائل الإعلام المحلية أشارت له على أنه “لقاء مع الجالية العراقية في الإمارات”!! وهذه لعمري كارثة حقيقية وإخفاق لا تبرير له سوى الإهمال وانعدام الخبرة من جانب الفريق الإعلامي المرافق للسيد المالكي.

تصوروا: رئيس وزراء العراق، أحد أهم الشخصيات السياسية في المنطقة والمسؤول الأول عن إحدى أكثر بقاع العالم سخونة، ومحط اهتمام الإعلام العالمي بأسره، يعقد مؤتمرا صحفيا في مركز محوري من مراكز الإعلام العربي (دولة الإمارات العربية المتحدة) ويضطر إلى تأجيله بسبب قلة المهتمين به!!! كان بالإمكان الاستفادة من هذه الفرصة النادرة التي وفرتها زيارة المالكي إلى الدول العربية المجاورة، خصوصا لدولة الأمارات العربية المتحدة، كي نوضح للشعوب العربية مشكلتنا وما نراه من حلول، وكان بإمكاننا أن نقنع الشعوب العربية من خلال الفرص الإعلامية الهائلة التي توفرها هذه الدولة، لكننا لم نستغل الفرصة والسبب هو هو: قلة الخبرة وحداثة التجربة وعدم الاعتماد على أهل الخبرة.

لا أدري لماذا لا نثق بمن لديهم خبرة من أبناء بلدنا كي نوكل إليهم مهمة خدمة بلدهم في هذه الظروف العصيبة؟ ولماذا نصر على تعيين “الموالين” الذين لا يستطيعون أن يساعدونا بشيء؟ فقد يكونون من أكثر الناس إخلاصا لكن المهم في أداء أي عمل هو الخبرة وليس الإيمان أو الأخلاق. من الطريف أن أشير في هذا السياق إلى أنني رأيت على شاشة التلفزيون أحد الصحفيين العاملين في إحدى القنوات الفضائية والذي كان يرافق المالكي في جولته وكان هذا الشخص يُقدَّم، ومن قبل المالكي نفسه، للمسئولين الأجانب وكأنه عضو في الوفد وليس صحفيا مرافقا بهدف التغطية الإخبارية (ومن يدري فربما حضر المباحثات أيضا!) حتى أن ذلك الصحفي صدق بأنه عضو في الوفد فقد سمعته يتحدث عن الزيارة للفضائية التي يعمل بها ولا يذكر اسم المالكي إلا وقبله عبارة “دولة السيد رئيس الوزراء”.

من الواضح جدا أنه لا خبرة له بالإعلام، لكنه وجد نفسه يعمل في هذا الحقل لحاجته إلى الوظيفة. إنه لا يعلم أن عليه أن يكون مستقلا في تحليلاته وتغطياته، ولا يلصق نفسه بالحكومة لأنه ليس منها، ولا يشعر بالامتنان لأحد لأنه اصطحبه في زيارة إلى الخارج فهذا الاصطحاب هو من أجل نقل الحدث بحيادية ولا فضل لأحد عليه بل إن عليه أن يؤدي دوره الإعلامي بحيادية ونزاهة. لكن البعض اعتاد المدح أو الذم ولا شيء غيرهما وقد يتوهم أنه بذلك يقدم خدمة لبلده. إن الشعب العراقي، عندما انتخب هذا الحزب أو ذاك أو هذا الشخص أو ذاك، يتوقع منه أن يجهد نفسه في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ولن يغفر لأي مسئول العمل خلاف ذلك. إن المسئولين الذين يتجاهلون مبادئ الخبرة والكفاءة إنما يتجاهلون التفويض الشعبي لهم بإدارة شؤون البلاد بما يرضي الله والعباد ولن يخدموا أحدا حتى أحزابهم التي ستتضرر من خلال سوء إدارتهم للأمور. أتذكر أن أول عمل قام به رئيس الوزراء البريطاني (الأسبق) توني بلير، عند انتخابه رئيسا للوزراء، هو اختيار الخبير الإعلامي أليستر كامبيل لإدارة الإعلام، ولم يكن هذا الرجل عضوا في حزب العمال الذي يقوده بلير، ولم ينضم له لاحقا، لكنه كان مسئولا عن نجاح بلير الإعلامي وفوزه برئاسة الحكومة ثلاث مرات إذ تمكن من تخليصه من مشاكل كبيرة محتملة لأنه شخص أتقن عمله وهذا هو المبدأ الإسلامي الذي يفترض أن يعمل به الإسلاميون على الأقل. نحن استبشرنا خيرا بمقدم المالكي الذي عرفناه محاربا من أجل الحق والعدل ولا نزال نتوقع منه خطوات جريئة في إزالة غير الأكفاء من مواقع احتلوها دون وجه حق والإتيان بأهل الكفاءة لأننا بحاجة إلى إتقان أعمالنا وتقديم خدمة لأبناء شعبنا فهذا هو المهم وليس اقتسام المناصب بين الأحزاب السياسية والطوائف المشكلة لها.