الحياة، ٢٠ يونيو/ حزيران ٢٠١٤  

لن أناقش أسباب سقوط الموصل بأيدي جماعة «داعش» المسلحة، فهذه مسألة تتحدى المنطق في دولة يفوق تعداد جيشها وقواها الأمنية المليون فرد، وهناك بالتأكيد خبايا ستنكشف بعد انفراج الأزمة وعودة الموصل إلى سيطرة الدولة الاتحادية اللذين سيحصلان إن عاجلاً أو آجلاً. ولكن من الضروري مناقشة الأسباب التي قادت إلى هذه الأزمة وفاقمت استياء الكثيرين من السُنَّة من الحكومة التي يقودها الشيعة وشعورهم بالاضطهاد بعد أن كانوا في قيادة الدولة منذ تأسيسها. 

لا شك في أن الشيعة عانوا في ظل الأنظمة السابقة، خصوصاً نظام صدام حسين، وأحد تجليات معاناتهم هو تجاهلهم كمجموعة دينية كبيرة وحظر بعض طقوسهم الدينية. ولا شك في أن الدولة العراقية كانت دولة سنّية في مظهرها وعربية في توجهها وعلمانية في مدعياتها، لكنها كانت ديكتاتورية ومستبدة ومتعسفة في حقيقتها. فلم يتمتع أي فرد من أي مكون بأي حرية تذكر باستثناء بعض الحريات الشخصية المكتسبة منذ تأسيس الدولة.

الحريات السياسية وحقوق الإنسان كانت غائبة ولا يحق لأحد أن يقول أو يفعل إلا ما يرضي النظام الحاكم وكانت وطأة الاضطهاد ثقيلة جداً على المتدينين الشيعة والمتحزبين منهم تحديداً. وما فاقم معاناة الشيعة هو تهمة الولاء لإيران، خصوصاً بعد قيام الجمهورية الإسلامية عام ١٩٧٩، والأسوأ من ذلك أن نصف مليون شيعي على الأقل «سُفّروا» إلى إيران تحت هذه الذريعة، علماً أن أجدادهم كانوا يقطنون العراق منذ مئات السنين.

لكن تلك الدولة القائمة على التعسف والتسلط لم تفرض أي عقيدة دينية على مواطنيها، باستثناء الأمور الشكلية كإعلان بدء رمضان وعيدي الفطر الأضحى وموعد الحج، إذ كان قاضي بغداد الأول (السنّي)، يعلن هذه المناسبات لجميع العراقيين وفق التقويم السنّي، بينما يتجاهل الشيعة المواعيد الرسمية ويحتفلون بمواعيد تعلنها مرجعياتهم الدينية في النجف وقم. كما أن المناهج الدراسية لمادتي الدين والتاريخ كانت تتبنى الرؤية السُنّية في مجملها.

بعد سقوط النظام (السُنِّي) عام ٢٠٠٣ تحت ضربات القوات الأميركية الباحثة عن أسلحة الدمار الشامل، ثم هيمنة الإسلاميين الشيعة على الحكم نتيجة للانتخابات التي أُجريت مطلع عام ٢٠٠٥، رُفعت القيود وأُطلقت الحريات الدينية وبدأ الشيعة يمارسون طقوسهم في العلن بلا خوف، فالحكومة لا تسمح بهذه الطقوس فحسب بل تنظمها وتحميها من الجماعات المتطرفة التي استهدفتها باستمرار.

غير أن التوسع في هذه الطقوس، زمنياً ومكانياً وعددياً، جعلها تعطل الحياة المدنية في معظم المدن العراقية وتتسبب في إغلاق الشوارع وتعطيل دوائر الدولة والأعمال التجارية، وقد أدى إلى تذمر عراقيين كثيرين، خصوصاً من أبناء الأديان والمذاهب الأخرى، وشعورهم بالتهميش والاضطهاد. بينما اعتبرها بعض السُنّة محاولة لفرض التشيع على سُنّة العراق، وهذا بالضبط ما قاله لي مسؤول سُنّي في الحكومة العراقية. 

لا يبدو أن هناك أي محاولة لتشييع السُنّة في العراق، ومعظم الشيعة يتمنون لو أن السُنّة انسجموا وتعاونوا من أجل بناء الدولة الجديدة، بل إن مسؤولين كثيرين في الحكومة يتمنون لو لم تُمارس الطقوس الشيعية بالكثافة التي تجرى فيها حالياً لأنها تُشغِل الحكومة والدولة برمّتها وتربك قوى الشرطة والجيش وتتسبب في إغلاق الشوارع وتعطيل الأعمال التجارية مرات عدة كل عام، كما أنها أصبحت هدفاً للإرهابيين الذين يهاجمونها بأحزمتهم الناسفة وسياراتهم المفخخة، في وقت تحاول الحكومة، كما يقول مؤيدوها، أن تضبط الأمن وتنهض بالاقتصاد وتصلح الخدمات.

كما يستفِز بعض هذه الطقوس قطاعات معينة من السكان، وحتى من الشيعة أنفسهم، بسبب المبالغة التي تحصل فيها أحياناً، لكن الحكومة تتردد في اتخاذ إجراءات لتنظيمها والحد من تأثيراتها في الآخرين لأنها أولاً تستمد شرعيتها من ناخبيها الذين يمارس كثيرون منهم هذه الشعائر، وثانياً لأنها لا تريد أن تعطي خصومها ذريعة لاتهامها بالوقوف ضد المذهب. وما يحصل أن الأحزاب الشيعية تتسابق في دعم هذه الشعائر والمشاركة فيها، ما ساهم في توسعها.

وما يثير أتباع المذاهب والأديان الأخرى أيضاً كثرة الشعارات الدينية الشيعية في دوائر الدولة التي تجعلها تبدو وكأنها تنتمي إلى مذهب معين وليس الى الدولة التي تمثل الجميع. وإضافة إلى الشعارات والصور والأعلام ذات الدلالات المذهبية المنتشرة في الدوائر والشوارع والمنازل، هناك قنوات دينية يختار مشاهدتها كثيرون من موظفي الدولة أثناء ساعات الدوام الرسمي، وبعض هذه القنوات يطلق شعارات وعبارات تستفز قطاعات معينة.

الدولة العراقية بحاجة لأن تكون محايدة، ودوائر الدولة والسيطرات الأمنية والأماكن العامة يجب أن تخلو من أي طابع مذهبي كي يشعر المواطنون من كل الأديان والمذاهب أن مؤسسات الدولة لهم جميعاً وليس لجزء منهم. ومن الضروري أيضاً أن يبتعد المجاهرون (أو المتاجرون) بمذهبيتهم عن مواقع المسؤولية لأنهم يؤججون الشعور الطائفي عند الطائفتين. إعلام الدولة يجب ألا يحمل أي نبرة مذهبية كي يكون محايداً ويُشعِر المواطنين جميعاً بأنهم يحظون بالقدر نفسه من الاحترام والإيجابية. للأسف، فإن قناة «العراقية» التابعة للدولة فشلت في هذا الاختبار، بل إن بعض الشعارات التي ترفعها، كشعار «تصفية الحساب»، ملتبس ويعطي انطباعاً آخر لشريحة معينة من السكان، ولا أدري كيف قبلت إدارة القناة بشعار كهذا.

معظم الشيعة لا يدركون الأثر الذي تتركه ممارستهم بعض طقوسهم على غيرهم، وبالتأكيد لا يعرفون أنها تسبب لهم وللدولة ككل مصاعب كثيرة تستفز الآخرين ضدهم، ويستغربون هذا الاستفزاز ويعتبرونه استمراراً للاضطهاد الذي عانوه سابقاً، بينما تتردد الحكومة في الحد من أضرار هذه الظواهر لأسباب سياسية. إنها حقاً دوامة ليس لها حل حالياً غير الفيدرالية التي تعزل أتباع المذهبين عن بعضهم بعضاً. لكن هذا الحل يقوّض فرص التعايش بين أتباع المذهبين المنتشرين في كل مناطق العراق ويقلص فرص إقامة دولة عصرية. 

لا أحد ينكر حق الشيعة، أو أتباع أي مذهب أو دين، في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية المشروعة، ولكن يجب ألا تتسبب في إيذاء الآخرين والإضرار بهم وتعطيل أعمالهم واستفزاز عصبياتهم. يجب أن تكون هناك جرأة لدى المسؤولين، خصوصاً الإسلاميين الشيعة الذين لا يمكن أحداً أن يتهمهم بمعاداة المذهب، في جعل الدولة ودوائرها حيادية تجاه المواطنين كي يعيش الجميع بحرية وطمأنينة. لكن ما يصفه مؤيدو الحكومة بكثرة التحديات التي تواجهها جعلها تتساهل مع ظواهر يعترف مسؤولون كثيرون بأنها، بوضعها الحالي، متعبة للشيعة قبل غيرهم.

http://alhayat.com/Opinion/Writers/3074554/حياد-الدولة-العراقية-ضرورة-لإبقائها-متماسكة