مجلة الهدى

لم تعد في عالم اليوم خصوصية لأحد فأينما يذهب المرء يعلن عن نفسه وحضوره. فعندما تتجول في الشوارع والأسواق في أي مدينة من مدن العالم تجد كاميرات تراقبك وتسجل تحركاتك وتنقلاتك وتعاملاتك.

في معظم المحال التجارية توجد كاميرات ترصد المتسوقين والداخلين إليها والخارجين منها بل وحتى المارين خارجها… للأسف فنحن في العراق مازلنا متخلفين في هذا الجانب في وقت نحن بأمس الحاجة إلى كاميرات الرصد والمراقبة هذه في الشوارع والأماكن العامة والمحال التجارية كي تساعدنا على كشف تحركات الإرهابيين وضبط المجرمين وربما التمكن من اعتقالهم قبل أن ينفذوا جرائمهم. كما تساعد كاميرات المراقبة هذه في ردع المجرمين والإرهابيين لأنها تشعرهم أن قدراتهم على إرباك حياة الآخرين محدودة. 

عندما يحضر المرء نشاطا ما، سواء كان مؤتمرا أو ندوة أو معرضا للكتب أو الفن التشكيلي أو الصور الفوتوغرافية، فإن كاميرات القنوات الفضائية والأرضية والإذاعات والصحف وكاميرات وهواتف الأفراد تسجل حضوره هذا شاء أم أبى، فإن أفلت من إحداها فإن الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو العشرين ستسجل حضوره وتجواله وتحركاته، ويتساوى في هذا الأمر المشاهير مع المغامير، فلكل منا أصدقاؤه وأفراد عائلته الكبيرة الذين سيرونه في التلفزيون ولابد أن يخبر أحدهم الآخر عن هذا الحدث (المهم). وفي الوقت نفسه فإن الهواتف المحمولة تحمل الآن كاميرات فيديو وصور ثابتة وبإمكان أي أحد أن يلتقط صورا لنفسه أو أي شخص آخر ويضعها في حسابه في الفيس بوك ليراها عندئذ أصدقاؤه وأصدقاؤهم وأصدقاء أصدقائهم.

لقد أصبحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والاتصالات الحديثة توثق كل شيء بل وتخلِّده، فما أسهل حفظ الصور والأفلام هذه الأيام في الإنترنت، ومن منا لا يوجد لديه حساب على الفيس بوك أو توِتر ولينكد-إن! فمن ليس له حساب في هذه الوسائل لا يعتبر موجودا أصلا.

ومن منا لا يستخدم الـ (يوتيوب) هذه الأيام! أما من يريد الترويج لنفسه فما أكثر الوسائل التي يمكنه استخدامها لهذا الغرض، لكن عليه أن يعلم أن ما يعتبره هو ترويجا قد يعتبره الآخرون تشهيرا خصوصا إذا زاد الأمر عن حده المعقول. كثيرون يستمتعون بنشر متكرر لصورهم وصور أطفالهم وأصدقائهم وصور المناسبات التي يحضرونها، على الفيس بوك، وهذا أمر يعتبره كثيرون تطفلا وإزعاجا لهم وله مردودات عكسية لا تخدمهم مطلقا. وفي المقابل فإن هناك من يرفض أن يضع صورته في أي من وسائل التواصل الاجتماعي مما يجعله مجهولا أو مرفوضا من قبل الآخرين الذين يصرون على الشفافية في التعامل مع الأصدقاء (الافتراضيين).

لقد أصبح من الصعب، إن لم نقل المستحيل، أن يبقى أي شيء سريا، بل حتى من يريد أن يعتزل الحياة العامة ويتوارى عن الأنظار فإنه لن يتمكن من تحقيق هذه الرغبة لأن نشاطاتِه، مهما كانت قليلة وشخصية، وحركتَه، مهما كانت محدودة وفي أماكنَ يعتقدها نائيةً على معارفه وأصدقائه، ستكون مرصودة، شاء أم أبى.

أتذكر أن أحد الأصدقاء دعاني إلى محاضرة كان يلقيها في أحد المراكز العامة في لندن قبل عشرين عاما تقريبا وكانت الفضائيات لم تغزُ حياتَنا بعد، لكنه مع ذلك دعا قناةً مغمورةً كانت قد افتتحت حديثا لتصوير المحاضرة وبثها. وعندما دخل المصور إلى القاعة، اعترض بعض الجالسين وقالوا لن نبقى إن صورت هذه القناة (التي كان لهم اعتراض على أدائها) الحاضرين، فاضطر المحاضر لأن يطلب من المصور أن يوجه الكاميرا نحوه فقط وألا يصور الحاضرين…

مثل هذه الرغبات لم تعد ممكنة التحقيق حاليا لأن عدد القنوات الفضائية والأرضية قد أصبح بالمئات، وبإمكان أي شخص يمتلك بضعة ملايين من الدولارات أن يفتح فضائية ويبعث بكاميراته أينما يريد ويركز على أي قضية تهمه شخصيا أو تهم تجارته أو مموليه أو زبائنه أو مؤيديه…  

هناك الآن أشخاص فتحوا فضائيات للترويج لأنفسهم، أو هكذا يظنون، حتى أصبح ذلك “الترويج” تشهيرا بأنفسهم في تلك الفضائيات (أو “الفضائحيات” كما تسمى أحيانا!). أحدهم قال  في “فضائحيته” التي لا يشاهدها أحد سواه على الأرجح، إنه (لن ينسى فلسطين وإنه حدد يوما يحاسب فيه اليهود وأن العرب والمسلمين سيجتمعون جميعا لو ناداهم)!! ويتساءل المرء كيف تمكن شخص بهذه العقلية المحدودة أن يجمع مالا طائلا ليتمكن أن يفتح محطة فضائية خاصة به قد تكلفه مليون دولار في العام أو أكثر!

لا شك أن لكل هذه التطورات في حقل الاتصالات والإعلام إيجابيات كثيرة منها اختصار الزمن ونشر المعلومات وزيادة المعرفة وتسهيل التجارة والصناعة وزيادة الثروة بل مضاعفتها مرات عديدة، إلا أن لها سلبياتِها أيضا ومنها أنه لم يعد بإمكان أحد أن  يحتفظ بأي خصوصية له أو لعائلته، خصوصا إن كان يعمل في الفضاء العام ومعظم الناس تعمل في هذا الفضاء العام، باستثناء بعض العمال في الغرف المغلقة للمصانع أو الفلاحين في الحقول الزراعية النائية أو الملاحين في البواخر المبحرة في المحيطات.

من الضروري أن يحسب المرء حساب هذه الشفافية في حياته ويحذر من أن يفضح نفسه ظانا أنه يروِّج لها. وربما أحسن بعض الأكاديميين والمفكرين والقضاة ورجال الدين عملا عندما قلصوا التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام والاتصالات وأبقوا نشاطاتِهم في أروقة المدارس والجامعات والمساجد وأفكارهم على صفحات الكتب والصحف والمنشورات التي يصدرونها. لقد حافظوا على خصوصياتهم وأبقوا لأنفسهم قدرا من القدسية التي يستحقها رجال العلم والقضاء والدين. إلا أن بعضهم، لسوء حظهم ربما، استهوته بهرجة الإعلام والتواصل الاجتماعي فأخذوا يطلقون الفتاوى والآراء الغريبة والتحليلات المبسطة حتى عرّوا أنفسهم بأنفسهم وبرهنوا للجميع محدودية تفكيرهم ليصبحوا  مهزلة أمام الناس. 

من نافلة القول إن الأفضل لأي إنسان ألا يخرج لوسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي إلا عندما تكون لديه إضافة جديدة أو مساهمة معرفية متميزة وإلا فإنه سيضيع وقتهووقت الآخرين  في أكثر الأحيان وربما يساهم في كشف عيوبه وأخطائه وحدود معرفته. وسائل الإعلام والاتصالات والتواصل الحديثة لم تبقِ لأحد منا خصوصية فإن أردنا السلامة وحفظ الكرامة فلا بديل عن الاستقامة أولا والامتناع عن الابتذال ثانيا.