مجلة الهدى العدد ١٦

منذ أن انتفض التونسيون ضد الدكتاتورية وأسقطوها في كانون الثاني ٢٠١١،  وقد تلاهم بعد ذلك العرب في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وتجربتهم ماضية في طريق سلمي ديمقراطي ابتعد عن العنف والاستحواذ على السلطة. الحكومة الانتقالية التي كانت امتدادا للنظام السابق كانت متفهمة أنها انتقالية ولن تبقى طويلا في السلطة فلم تسعَ للبقاء ولم تفرض رؤاها على المجتمع. الانتخابات الأولى أفرزت برلمانا متنوعا حصلت فيه حركة النهضة الإسلامية، بقيادة الشيخ راشد الغنوشي، على الغالبية لكن الأحزاب التونسية ارتأت أن تتشارك في الحكم فتولى رئاسة الجمهورية السياسي العلماني اليساري المخضرم، المنصف المرزوقي، بينما تولى رئاسة الوزراء أحد قادة حركة النهضة، حمادي الجبالي.

 

ظلت حركة النهضة طيلة وجودها في الحكم متفهمة أنها لا تمتلك تفويضا شعبيا مطلقا، رغم كونها تحظى بتأييد الغالبية، وأن الحكم ليس غنيمة كي تستحوذ عليه وتستمتع به، بل هو مسؤولية وطنية وأخلاقية ودينية. تصرفت النهضة بمسؤولية لا نظير لها بين الحركات الإسلامية التي تسلمت الحكم في البلدان الإسلامية. وبعد أن أمضى، رئيس الوزراء النهضوي، حمادي الجبالي عاما وأربعة أشهر في السلطة، اندلعت في البلاد احتجاجات واسعة إثر اغتيال السياسي اليساري البارز شكري بلعيد، مما جعل موقف الجبالي صعبا لأنه شعر بمسؤولية عما يجري، كما اتهمه خصومه بالفشل وعدم القدرة على ضبط الأوضاع في البلاد. وللخروج من هذا المأزق، اقترح الجبالي تشكيل حكومة خبراء (تكنوقراط) كي تتمكن من حكم تونس أثناء الفترة الانتقالية التي تتضمن كتابة الدستور التونسي الجديد، لكن مقترحه جوبه بالرفض حتى من حزبه، حركة النهضة، أولا، وباقي الأحزاب التونسية الأخرى، وعندها قدم استقالته إلى الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، فرشحت حركة النهضة شخصا آخر لرئاسة الوزراء هو علي العريض وقد صادق البرلمان التونسي على حكومة العريض وتولى المنصب.

انتفضت المعارضة العلمانية ضد حكومة النهضة أواخر العام الماضي وانسحبت من البرلمان وطالبت باستقالة حكومة النهضة التي استقالت فورا. لم تتمسك النهضة بالسلطة كما فعل الأخوان المسلمون في مصر بزعامة محمد مرسي، بل رأت أنها، رغم تمتعها بغالبية في البرلمان، ستخسر تأييد الشعب لها إن أصرت على (حقها) في الحكم كما أصر مرسي باعتباره منتخبا من الشعب ويمتلك الحق والشرعية في الحكم.

لقد أدرك قادة حركة النهضة أن الشرعية التي تمُنح في الانتخابات يمكن أن تُفقَد في الشارع وقبل موعد الانتخابات المقبلة، وهذا مبدأ معروف ومعمول به في كل أنحاء العالم. في بريطانيا، فقدت مارغريت ثاتشر شرعيتها عام ١٩٩٠ رغم أن ولايتها تنتهي رسميا منتصف عام ١٩٩٢، ورغم أنها انتخبت لثلاث ولايات متتالية ونالت شعبية لم ينلها حتى تشرشل الذي هزم في الانتخابات بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية. لقد فقدت شرعيتها عندما فرضت على البريطانيين ضريبة “الرأس”، التي يدفع بموجبها الأغنياء والفقراء على حد سواء ضريبة متساوية. شعر كثيرون، حتى بين الأغنياء، أن هذا المبدأ ليس عادلا، فلا يجوز أن يتساوى الأغنياء والفقراء في دفع أي ضريبة حتى وإن كانت محلية كضريبة الرأس، فأخذت حشود المتظاهرين المحتجين على تلك الضريبة تزداد أسبوعيا في ساحة الطرف الأغر وسط لندن حتى تجاوز العدد مئتي ألف وربع مليون في بعض التقديرات.

لم ينتظر المحتجون حتى الانتخابات المقبلة كي يصوتوا ضد ثاتشر وحزبها بل خرجوا إلى الشوارع عندما مسهم الضر. عندها فكر حزب المحافظين بتغيير ثاتشر لأنها أصبحت مصدر ضررٍ وليس مصدر نفعٍ كما كانت سابقا، فرشح ضدها منافس من حزبها (مايكل هزلتاين) ولم تتمكن من الفوز في الجولة الاولى في انتخابات الحزب فقررت ألا ترشح نفسها في الجولة الثانية واستقالت ليرشح آخرون أنفسهم لزعامة الحزب فانتخب جون ميجور خلفا لها في أواخر عام ١٩٩٠ ليكمل ولاية ثاتشر الثالثة، ثم أعيد انتخابُه مرة ثانية في عام ١٩٩٢. لم تتمسك ثاتشر بالحكم لإنهاء ولايتها الثالثة وهي التي انتخبها الشعب ثلاث مرات متتالية وكان بإمكانها أن تبقى خمس سنوات في كل ولاية كما يقضي بذلك العرف السياسي البريطاني (بريطانيا ليس فيها دستور مكتوب كباقي دول العالم، والبريطانيون يعتزون بالتزامهم حرفيا بالآليات المتعارف عليها بينهم دون وجود إلزام دستوري). لم تفعل ذلك لأنها تدرك أن الجماهير هي التي تمنح السياسيين الشرعية وعندما هب الناخبون ضدها في الشوارع فإنها في الحقيقة فقدت الشرعية خصوصا وأن الجميع أدرك أن سياستها كانت خاطئة ولا حل غير الاستقالة وإنهاء التفويض الشعبي.

هذا ما أدركه راشد الغنوشي وقادة حركة النهضة الإسلامية في تونس ولم يدركه قادة الأخوان المسلمين في مصر وقادة إسلاميون آخرون في بلدان أخرى. وبذلك كسبت النهضة ود واحترام التونسيين ومن ورائهم العالم كله بينما خلق الأخوان المسلمون أزمة في مصر ستبقى متأججة إلى حين، وفقدوا الشعبية التي أوصلتهم إلى الحكومة. لقد لقن الإسلاميون التونسيون العرب والمسلمين درسا بليغا في الديمقراطية واحترام التنوع، فهل يا ترى يتعلم الآخرون هذا الدرس؟